الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3208 ] ( 22 ) باب الأمر بالمعروف

الفصل الأول

5137 - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " . رواه مسلم .

التالي السابق


22 - باب الأمر بالمعروف

وفي النهاية : المعروف اسم جامع لكل ما عرف من طاعات الله تعالى ، والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات ، وهو من الصفات الغالبة أي : أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه ، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس ، والمنكر ضد ذلك جميعه اهـ . وكان حق المؤلف أن يقول : والنهي عن المنكر ، ولعله تركه لأن الأمر بالمعروف يعم النهي عن المنكر ، أو هو من باب الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر كقوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد .

الفصل الأول

5137 - ( عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من رأى ) أي : علم ( منكم منكرا ) أي : في غيره من المؤمنين ، والخطاب للصحابة أصالة ولغيرهم من الأمة تبعا ، وفي الإتيان بمن التبعيضية إشعار بأنه من فروض الكفاية ، وإيماء إلى أنه لا يباشره إلا من يعرف مراتب الإحسان وتفاوت المنكرات ، ويميز بين المتفق عليه والمختلف فيه منها ، وهذا المعنى مقتبس من قوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون وخلاصة الكلام : من أبصر ما أنكره الشرع ( فليغيره بيده ) أي : بأن يمنعه بالفعل بأن يكسر الآلات ويريق الخمر ويرد المغصوب إلى مالكه ، ( فإن لم يستطع ) أي : التغيير باليد وإزالته بالفعل ، لكون فاعله أقوى منه ( فبلسانه ) أي : فليغيره بالقول وتلاوة ما أنزل الله من الوعيد عليه ، وذكر الوعظ والتخويف والنصيحة ( فإن لم يستطع ) أي : التغيير باللسان أيضا ( فبقلبه ) : بأن لا يرضى به وينكر في باطنه على متعاطيه ، فيكون تغييرا معنويا إذ ليس في وسعه إلا هذا القدر من التغيير ، وقيل : التقدير فلينكره بقلبه لأن التغيير لا يتصور بالقلب ، فيكون التركيب من باب : علفتها تبنا وماء باردا . ومنه قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان ( وذلك ) أي : الإنكار بالقلب وهو الكراهية ( أضعف الإيمان ) أي : شعبه أو خصال أهله ، والمعنى أنه أقلها ثمرة ، فمن غير المراتب مع القدرة كان عاصيا ، ومن تركها بلا قدرة أو يرى المفسدة أكثر ويكرر منكرا لقلبه ، فهو من المؤمنين . وقيل : معناه وذلك أضعف زمن الإيمان ، إذ لو كان إيمان أهل زمانه قويا لقدر على الإنكار القولي أو الفعلي ، ولما احتاج إلى الاقتصار على الإنكار القلبي ، أو ذلك الشخص المنكر بالقلب فقط أضعف أهل الإيمان ، فإنه لو كان قويا صلبا في الدين لما اكتفى به ، ويؤيده الحديث المشهور : " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وقد قال تعالى : ولا يخافون لومة لائم هذا وقد قال بعض علمائنا : الأمر الأول للأمراء ، والثاني للعلماء ، والثالث لعامة المؤمنين . وقيل : المعنى إنكار المعصية بالقلب أضعف مراتب الإيمان ، لأنه إذا رأى منكرا معلوما من الدين بالضرورة فلم ينكره ولم يكرهه ، ورضي به واستحسنه كان كافرا ، ولعل الإطلاق الدال على العموم لإفادة التهديد والوعيد الشديد .

قال ابن الملك - رحمه الله - فإن قلت : هذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما ذهب إليه الشافعي - رحمه الله - فما تأويله عند الحنفية ؟ قلنا : معناه أضعف ثمرات الإيمان والإنكار بالقلب منها . فإن قلت : لو كان كذلك لزم أن لا يخرج من الإيمان لانتفائه ، وليس كذلك لما جاء في بعض الروايات ، وليس وراء [ ص: 3209 ] ذلك من الإيمان حبة خردل . قلت : أراد به أن الثمرات القوية والضعيفة إذا انتفت كان الإيمان كالمعدوم اهـ . وفيه أنه حينئذ يرجع الحديث دليلا للخصم ، فالصواب أن يقال : التقدير ليس وراء ذلك من كمال الإيمان أو من الإيمان الكامل حبة خردل ، لا يقال هذا أيضا يدل على تحقق الكمال والنقصان بالنسبة إلى الإيمان ، فإنا نقول : الخلاف إنما هو في حقيقة الإيمان وهو التصديق القلبي ، هل هو قابل للزيادة والنقصان أم لا ؟ بل المحققون من الشافعية أيضا على أن النزاع لفظي ، فإن نفس الإيمان وجوهره لا يتجزأ ، أو إنما كماله أن ينضم إليه وجود الأعمال الصالحة ، لأن الله تعالى حيث مدح المؤمنين الكاملين عطف الأعمال على الإيمان ، وقال : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومن المعلوم أن الأصل في العطف التغاير ، وأما كون الأعمال جزء الإيمان حقيقة ، فإنما هو مذهب الخوارج والمعتزلة ، وأما الآيات والأحاديث الدالة على الزيادة والنقصان ، فإما محمولة على ما ذكرنا ، وإما بالنظر إلى تعدد المؤمن به ، وهذا بحث طويل الذيل محله كتب العقائد ومباحث الكلام ، والله تعالى أعلم بحقيقة المرام .

ثم اعلم أنه إذا كان المنكر حراما وجب الزجر عنه ، وإذا كان مكروها ندب ، والأمر بالمعروف أيضا تبع لما يؤمر به ، فإن وجب فواجب ، وإن ندب فمندوب ، ولم يتعرض له في الحديث لأن النهي عن المنكر شامل له ، إذ النهي عن الشيء أمر بضده ، وضد المنهي إما واجب أو مندوب أو مباح والكل معروف ، وشرطهما أن لا يؤدي إلى الفتنة ، كما علم من الحديث ، وأن يظن قبوله ، فإن ظن أنه لا يقبل فيستحسن إظهار شعار الإسلام ، ولفظ من لعمومه شمل كل أحد رجلا أو امرأة ، عبدا أو فاسقا أو صبيا مميزا إذا كان ، وإن كان يستقبح ذلك في الفاسق قال تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وقال عز وجل : لم تقولون ما لا تفعلون وأنشد :


وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض



قال النووي - رحمه الله - في شرح مسلم قوله : " فليغيره بيده " هو أمر إيجاب ، وقد تطابق على وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وهي أيضا من النصيحة التي هي الدين ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الروافض ، ولا يعتد بخلافهم . قال إمام الحرمين أبو المعالي : لا نكترث بخلافهم ، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة ، فمن وجب عليه وفعله ولم يمتثل المخاطب ، فلا عتب بعد ذلك عليه لكونه أدى ما عليه ، وما عليه أن يقبل منه وهو فرض كفاية ، ومن تمكن منه وتركه بلا عذر أثم ، وقد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو ، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو ، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر . قالوا : ولا يسقط عن المكلف لظنه أن لا يفيد ، بل يجب عليه فعله ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه ، بل يجب عليه مطلقا ، لأن الواجب عليه شيئان أن يأمر نفسه وينهاها ويأمر غيره وينهاه ، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر ؟ قالوا : ولا يختص ذلك بأصحاب الولايات ، بل هو ثابت على آحاد المسلمين ، فإن السلف الصالح كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر ، مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل به ، ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء فإن كان من الواجبات الظاهرة أو المحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزكاة والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين عالم بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، لأن إنكاره على ذلك للعلماء ، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه الأئمة ، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد نصيب ، وينبغي للآمر والناهي أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب ، فقد قال الإمام الشافعي : من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه ، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه . قال القاضي عياض رحمه الله : إن هذا الباب باب عظيم في الدين به قوام الأمر وملاكه ، فإذا فسد عم العقاب الصالح والظالم . قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( رواه مسلم ) : وكذا أحمد والأربعة .




الخدمات العلمية