الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1004 - مسألة : ولا يحل أكل ما لم يسم الله تعالى عليه بعمد أو نسيان .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } فعم تعالى ولم يخص .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، ومالك : إن ترك عمدا لم يحل أكله ، وإن ترك نسيانا حل أكله .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي : هو حلال ترك عمدا ، أو نسيانا .

                                                                                                                                                                                          روينا عن ابن عباس من طريق فيها ابن لهيعة أنه قال : إذا خرجت قانصا لا تريد [ ص: 88 ] إلا ذلك ، فذكرت اسم الله حين تخرج ، فإن ذلك يكفيك .

                                                                                                                                                                                          وصح عن أبي هريرة فيمن ذبح وهو مغضب فلم يذكر الله تعالى أنه يؤكل وليسم الله تعالى إذا أكل .

                                                                                                                                                                                          وعن عطاء إذا قال المسلم : باسم الشيطان فكل .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن جماعة من التابعين إباحة أكل ما نسي ذكر الله تعالى عليه ، ولم يذكر عنهم تحريمه في تعمد ترك الذكر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج أهل الإباحة لذلك بما رويناه من طريق عمران بن عيينة أخي سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : { جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله عز وجل ؟ فأنزل الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } إلى آخر الآية } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذا من التمويه القبيح ، وليت شعري أي ذكر في هذا الخبر لإباحة أكل ما لم يسم الله تعالى عليه ، بل حجة عليهم كافية .

                                                                                                                                                                                          فأما قول الشافعي فما نعلم له حجة أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون ، والمالكيون ، فإنهم ذكروا خبرا رويناه من طريق سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس نا الأحوص بن حكيم عن راشد بن سعد قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد } .

                                                                                                                                                                                          فهذا مرسل ، والأحوص بن حكيم ليس بشيء ، وراشد بن سعد ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وخبر آخر : من طريق وكيع نا ثور الشامي عن الصلت مولى سويد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { ذبيحة المسلم حلال - وإن نسي أن يذكر اسم الله - لأنه إذا ذكر لم يذكر إلا الله تعالى } .

                                                                                                                                                                                          وهذا مرسل لا حجة فيه ، والصلت أيضا مجهول لا يدرى من هو .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : إنما ذبحت بدينك .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وما نذبح إلا بأدياننا وبما ينهر الدم ، ومن الذبح بالدين أن يسمى الله تعالى فمن لم يسمه عز وجل فلم يذبح بدينه ولا كما أمر . [ ص: 89 ] واحتجوا أيضا بأن قالوا : قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وأنتم تجيزون صلاة من تكلم فيها ناسيا ، وصوم من أكل فيه ناسيا ، فما الفرق ؟ قالوا : وقول الله تعالى : { وإنه لفسق } إخراج للناسي من هذه الجملة ، لأن النسيان ليس فسقا .

                                                                                                                                                                                          هذا كل ما احتجوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه . أما سقوط الجناح في الخطأ ، وسقوط المؤاخذة بالنسيان والخطأ ، ورفعهما عنا ، فنعم ؟ وهو قولنا ، وهكذا نقول : إنه ههنا مرفوع عنه الإثم والحرج إذا نسي التسمية ، لكنا قلنا : إنه لم يذك ، لكن ظن أنه ذكى ولم يذك ، كمن نسي الصلاة وظن أنه صلى وهو لم يصل ، فلما لم يذك كان ميتة لا يحل أكله ، لأن الله تعالى نهانا أن نأكل ما لم يذكر اسم الله عليه فكانت هذه الصفة متى وجدت في مذبوح أو منحور أو تصيد لم يحل أكله .

                                                                                                                                                                                          والفرق بين ما جهلوا الفرق بينه من ذلك : هو أن العمل المأمور به من نسي أن يعمله ، أو تعمد أن لا يعمله ، فلم يعمله إلا أن الناسي غير حرج في نسيانه والعامد في حرج ، وكل عمل عمله المرء مما أمر به فزاد فيه ما لم يؤمر به ناسيا فلا حرج عليه فيما عمل ناسيا ، وعمله لما عمل مما أمر به صحيح جائز جاز - فهذا هو حكم القرآن والسنن إلا ما جاء نص بإخراجه عن هذا الحكم فيوقف عنده .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { وإنه لفسق } فلم نقل قط : إن نسيان الناسي لتسمية الله تعالى على ذبيحته ونحيرته وصيده - : فسق ؟ ولا قلنا : إن الله تعالى سمى نسيانه لذلك : فسقا ، لكن الله تعالى سمى ذلك العقير الذي لم يذكر اسم الله عليه : فسقا - هذا نص الآية الذي لا يجوز إحالتها عنه أن ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه ، فإنه فسق ، والفسق محرم ، وما لم يذكر اسم الله عليه فهو مما أهل لغير الله به فهو حرام بنص الآية التي لا تحتمل تأويلا سواه - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          نا حمام بن أحمد نا أبو محمد الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا معلى نا هشيم ، عن يونس هو ابن عبيد - عن محمد بن زياد [ ص: 90 ] قال : إن رجلا نسي أن يسمي الله تعالى على شاة ذبحها فأمر ابن عمر غلامه فقال : إذا أراد أن يبيع منها لأحد ؟ فقل له : إن ابن عمر يقول : إن هذا لم يذكر اسم الله عليها حين ذبحها - وهذا إسناد في غاية الصحة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا معتمر بن سليمان عن خالد هو الحذاء - عن ابن سيرين عن عبد الله بن يزيد قال : لا تأكل إلا مما ذكر اسم الله عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن أشعث هو الحمراني - عن ابن سيرين عن عبد الله بن يزيد سأله رجل عمن ذبح ونسي أن يسمي الله ؟ فتلا عبد الله قول الله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق } وعبد الله هذا هو صحيح الصحبة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو خالد الأحمر سليمان بن حيان عن داود بن أبي هند عن الشعبي أنه كره ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه بنسيان .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن عكرمة قال : إذا وجدت سهما في صيد وقد مات فلا تأكله ، إنك لا تدري من رماه ولا تدري أسمى أم لم يسم ؟ ومن طريق وكيع نا عبد الله بن راشد المنقري عن ابن سيرين فيما نسي أن يذكر اسم الله عليه أرأيت لو قلت : كل وقال الله : لا تأكل - أكنت تأكل ؟ ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر أنه كره أكل ما نسي ذابحه أن يسمي الله تعالى عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن سيرين أنه كره أكل ما نسي ذابحه أن يسمي الله تعالى عليه .

                                                                                                                                                                                          وهو قول أبي ثور ، وأبي سليمان ، وأصحابه ، وبهذا جاءت السنن .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق أبي داود الطيالسي نا زائدة عن سعيد بن مسروق نا عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ما أنهر الدم وذكر اسم الله تعالى عليه فكل } وذكر باقي الحديث . [ ص: 91 ] ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة نا الشعبي سمعت عدي بن حاتم يقول : { قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل كلبي فأجد مع كلبي كلبا قد أخذ لا أدري أيهما أخذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره } فجعل عليه السلام المانع من الأكل لأنه لم يسم على الذي لا يدري أهو قتله أم غيره .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية