الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    ( قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ( 63 ) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ( 64 ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( 65 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    لما سأل إبليس عليه اللعنة النظرة قال الله له ( اذهب ) فقد أنظرتك كما قال في الآية الأخرى ( قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ) [ الحجر 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تبعه من ذرية آدم جهنم فقال : ( فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ) أي على أعمالكم ( جزاء موفورا )

                                                                                                                                                                                                    قال مجاهد وافرا وقال قتادة موفرا عليكم لا ينقص لكم منه

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك

                                                                                                                                                                                                    وقال ابن عباس في قوله : ( واستفزز من استطعت منهم بصوتك ) قال كل داع دعا إلى معصية الله عز وجل وقال قتادة واختاره ابن جرير [ ص: 94 ]

                                                                                                                                                                                                    وقوله ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم ؛ فإن الرجل جمع " راجل ، كما أن الركب جمع راكب " و صحب جمع " صاحب

                                                                                                                                                                                                    ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه وهذا أمر قدري كما قال تعالى : ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) [ مريم 83 ] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وتسوقهم إليها سوقا وقال ابن عباس ومجاهد في قوله ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) قال كل راكب وماش في معصية الله

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه

                                                                                                                                                                                                    وتقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه . ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق " الجلبة ، وهي ارتفاع الأصوات

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) قال ابن عباس ومجاهد هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله

                                                                                                                                                                                                    وقال عطاء هو الربا وقال الحسن هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام وكذا قال قتادة

                                                                                                                                                                                                    وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة

                                                                                                                                                                                                    ثم ] قال ابن جرير والأولى أن يقال إن الآية تعم ذلك كله

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( والأولاد ) قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا

                                                                                                                                                                                                    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفها بغير علم

                                                                                                                                                                                                    وقال قتادة عن الحسن البصري قد والله شاركهم في الأموال والأولاد ، مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان وكذا قال قتادة سواء

                                                                                                                                                                                                    وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم : عبد الحارث " و عبد شمس " و عبد فلان

                                                                                                                                                                                                    قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته ما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله ووأده وغير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به وأطيع فيه الشيطان أو به فهو مشاركة [ ص: 95 ]

                                                                                                                                                                                                    وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم "

                                                                                                                                                                                                    وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا "

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق ( إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) الآية إبراهيم 22 ] .

                                                                                                                                                                                                    وقوله ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) : إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال : ( وكفى بربك وكيلا ) أي حافظا ومؤيدا وناصرا

                                                                                                                                                                                                    وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر "

                                                                                                                                                                                                    ينضي ، أي يأخذ بناصيته ويقهره

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية