الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فوسوس لهما الشيطان أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما [ ص: 99 ] الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال : رجل موسوس بكسر الواو على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      ليبدي لهما أي ليظهر لهما واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة ويكون هذا مبنيا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح قيل : وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع .

                                                                                                                                                                                                                                      ما ووري عنهما من سوآتهما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي وجمع السوآت على حد صغت قلوبكما واعتبار الأجزاء بعيد والمتبادر من هذا الكلام حقيقته : وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه و ( ووري ) بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله ( أوري ) بالهمزة لأن القاعدة إذا اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية كان لها نظير متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أويصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة وقرئ ( سوأتهما ) بالإفراد والهمزة على الأصل و ( سوتهما ) بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو في الواو وقرئ ( سواتهما ) بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و ( سوآتهما ) بالطرح وقلب الهمزة واوا والإدغام وقال عطف على ( وسوس ) بطريق البيان ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أي الأكل منها إلا أن تكونا ملكين استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20) أي الذين لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير ( ملكين ) بكسر اللام قال الزجاج : ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث أن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه وأيضا قد يقال : إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر [ ص: 100 ] لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له : إن آدم وحواء صدقا قول الشيطان : معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ .

                                                                                                                                                                                                                                      وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال : إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره : ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية