الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        وقد بقي من [ تمام ] الكلام قول جامع كلي في الزواجر ، وما يتعلق بالإيالة ، فنقول :

        [ ص: 517 ] لا يكاد يخفى جواز دفع الظلمة ، وإن انتهى الدفع إلى شهر الأسلحة ، فإن من أجلى أصول الشريعة ، دفع المعتدين بأقصى الإمكان عن الاعتداء ولو ثارت فيه زائغة عن الرشاد ، وآثروا السعي في الأرض بالفساد ، ولم يمنعوا قهرا ، ولم يدفعوا قسرا ، لاستجرأ الظلمة ، ولتفاقم الأمر . وهذا يغني ظهوره عن الإمعان في البيان .

        829 - فأما إذا اعتدى المعتدون ، وظفرنا بهم ، فأصول الحدود لا تخفى ما بقيت شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .

        والكلام الضابط فيها أن كل حد استيقنه أهل العصر أقامه ولاة الأمر ، كما تقدم القول الشافي البالغ في أحكام الولاة .

        فإذا شك بنو الزمان في وجوب الحد ، لم يقيموه أصلا ، ولو علموا أن وجوب الحد مختلف فيه بين العلماء ، فهو إذن مظنون وكان في محل التحري ، إذا كانت التفاصيل مذكورة محفوظة .

        فإذا عدم أهل الزمان ما يتعلق به المقلدون من تقديم إمام على [ ص: 518 ] إمام ، فقد استوى عندهم الظنان ، وتعارض المذهبان ، ولا تعويل على ظنون العوام في أنفسهم ، فلا سبيل إلى الهجوم على إقامة العقوبات وإراقة الدماء مع التردد .

        830 - ولو وقعت واقعة في حد مع بقاء الفروع ، واستوى في ظن المفتي إيجاب الحد ونفيه ، ولم يترجح أحد الظنين على الثاني ، فلا يفتى بالحد أصلا ، فحكم أهل الزمان الخالي عن علم التفاصيل يجري هذا المجرى .

        831 - ومما يليق بذلك أنه إذا زنى رجل ، وعلم أنه استوجب الحد ، ولكن لم يدر أمحصن هو فيرجم ؟ أو بكر فيجلد ؟ فلا سبيل مع الإشكال إلى رجمه . فأما الجلد فلا يجوز جلد المحصن كما لا يجوز رجم البكر ، إذ لا تبادل في الحدود .

        فالوجه على حكم الأصل أن لا يحد أصلا ; فإنا شككنا في أن الجلد هل يسوغ إقامته أم لا ، والعقوبة المشكوك فيها لا تقام في الزمان الذي دفعنا إلى الكلام فيه .

        [ ص: 519 ] 832 - فإن قيل : لو زنى محصن واستوجب الرجم ، والشريعة بمائها ( 274 ) والعلماء متوافرون وحملة الشريعة مستقلون بضبط التفاصيل ، ورأى الإمام أن يقتل المحصن بالسياط ، ويحلها محل الأحجار فينبغي أن يجوز ذلك .

        وإذا ثبت جوازه ، فليجلد من اعتاص الأمر في رجمه وجلده .

        فإن كان مرجوما ، فقد اقتصر على بعض ما يستحق ، وإن كان مجلودا فقد أقيم عليه [ حقه ] كملا .

        833 - قلنا : لسنا نرى أولا إقامة السياط مقام الأحجار ، فإن الحدود لا يتغير كيفياتها ولا تبدل آلاتها .

        ثم إن انتهى مجتهد إلى تجويز ما أورده السائل ، فهو من دقيق القول في أساليب الظنون ، فكيف يدركه أهل الزمان الشاغر عن علماء التفاصيل ؟ .

        834 - نجز الكلام في المرتبة الثالثة ، وقد قيض الله تعالى فيها أمورا بديعة ، لا يدرك علو قدرها إلا الفطن الغواص [ ص: 520 ] و [ من ] هو من أخص الخواص ، وكنت قد عزمت على أن أذكر في كل كتاب وباب فصولا ، وأمهد أصولا ، ثم رأيت الاكتفاء بهذه اللمع ; إذ وجدتها ترشد إلى مسالك الكلام في الأصول [ جمع ] ولو لم يكن فيه ما يسر الطالب إلا التنبيه على الأصول ، لكان ذلك كافيا .

        835 - فإن قال قائل قد بنيتم هذه المرتبة على خلو أهل الزمان عن ذكر التفاصيل ، والذي ذكرتموه مما يغمض على معظم العلماء في الدهر ، فكيف يدركه أهل زمان فاتتهم تفريعات الشريعة وتفاصيلها ؟ فليس يحتاج إليه إذن ، والشريعة محفوظة ، فإذا درست فروعها ، ولم يستقل الناس بها ، لم يفهمها العوام ، فهذا الكلام إذن لا يجدي ولا يفيد على اختلاف الزمان في الذكر والنسيان ؟

        836 - قلنا : الجواب عن هذا من وجهين : أحدهما - أنه ليس خاليا عن فوائد جمة مع بقاء العلوم بتفاصيل الشريعة ، وفيها ( 275 ) التنبيه على مأخذ الأصول والفروع ، ومن أحكمه تفتحت قريحته في مباحث المعاني ، وعرف القواعد [ ص: 521 ] والمباني ، ورقى إلى مرقى عظيم من الكليات لا يدركه المتقاعد الواني ، [ وطرق ] المباحث لا تتهذب إلا بفرض التقديرات قبل وقوعها والاحتواء على جملها ، ومجموعها .

        فهذا جواب . ولست أرتضيه ; فإني لم أجمع هذا الكلام لهذا الغرض .

        837 - فالجواب السديد أني وضعت [ هذا ] الكتاب لأمر عظيم ، فإني تخيلت انحلال الشريعة ، وانقراض حملتها ، ورغبة الناس عن طلبها ، وإضراب الخلق عن الاهتمام بها ، وعاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون ، والمتسمون بالطلب يرضون بالاستطراف ، ويقنعون بالأطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها ، أو فصول ملفقة ، وكلم مرتقة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام .

        فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قرب وكثب ، ولا تخلفهم إلا التصانيف والكتب . ثم لا يستقل بكتب [ ص: 522 ] الشريعة على كثرتها واختلافها مستقل بالمطالعة من غير مراجعة مع مرشد ، وسؤال عن عالم مسدد .

        فجمعت هذه الفصول ، وأملت أن يشيع منها نسخ في الأقطار والأمصار ، فلو عثر عليها بنو الزمان لأوشك أن يفهموها لأنها قواطع ثم ارتجيت أن يتخذوها ملاذهم ومعاذهم ، فيحيطوا بما عليهم من التكاليف في زمانهم ويتحفظونه لصغر حجمه واتساق نظمه .

        فهذا ما قصدت . فإن تحقيق ظني فهو الفوز الأكبر ، وإلا فالخير أردت . والله المستعان .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية