الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3028 ] النفس الإنسانية

                                                          هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين

                                                          بين الله تعالى أن الفطرة الإنسانية تتجه إلى الإيمان بالله تعالى، وأنها شهادة النفس الإنسانية، وأنها العهد الذي أخذه الله تعالى على الناس وهم في ظهور آبائهم، وقد بين كيف انحرفت، وتوالت هذه الانحرافات، وصارت الخلائف تتجه إليها في ذرياتهم، وكأنها حيلة وليست كذلك، يقول الله تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها أي أن الناس جميعا يرجعون إلى نفس واحدة في جنس واحد، ولذلك كانوا متجانسين ملتقين في طبيعة واحدة مهما تختلف أجناسهم أو تتباين شعوبهم وقبائلهم، فهم من جنس [ ص: 3029 ] واحد، أو نقول: النفس الواحدة هي نفس آدم، وجعل الله تعالى زوجها من جنسها أو منها ليسكن إليها ليأنس روح كل منهما بصاحبه، والمؤدى في التخريجين واحد، وهو التجانس التام بين النفسين: النفس التي انبعثت منها زوجها، والزوج المنبعث.

                                                          وقوله تعالى: ليسكن إليها توضح التجانس، سواء أذكر ابتداء أم كان ذكر بانتهاء القول، أي: سواء أفسرنا النفس بالوحدة الجنسية أم فسرنا النفس بآدم وحواء.

                                                          وقوله: ليسكن إليها أي: ليستأنس ويطمئن ويمتزج روحاهما، كقوله تعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة

                                                          ويلاحظ هنا من الناحية البيانية أنه - سبحانه وتعالى - ذكر النفس في السياق بالسياق مرة بأنها مؤنثة الضمير عليها مؤنثة فقال: خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها فلما بين الله - سبحانه وتعالى - ثمرة ذلك التجانس - وهو التلاقح بين الذكر والأنثى ليبقى الوجود، وليكون ذلك التجانس منتجا أقصى غايته - قال: فلما تغشاها حملت حملا خفيفا بين حينئذ الذكر والأنثى، وأن الذي تغشى عند اللقاء المنتج بينهما هو الذكر، وأن التي تغشى هي الأنثى، وبذلك تكون الثمرة الإنسانية هي نتيجة ما بينهما، ولذا عاد الضمير مذكرا، فتغشى معناها: كان بينهما ما أوجبته الفطرة.

                                                          ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - مراتب الشعور بالحمل الذي يكون نتيجة لذلك التغشي فذكر مراتب ثلاثة:

                                                          المرتبة الأولى - مرتبة الحمل في أوله، وهي مرتبة تردد وتعرف، فقال تعالى: فلما تغشاها حملت حملا خفيفا أي سهلا محتملا، ولم يمنعها من عمل، وكان من صفات هذه المرحلة أنها لم تعقها عن عمل، ولم تمنعها من أداء واجباتها المنزلية، ولذا قال تعالى: فمرت به أي كانت تنتقل به، فـ"الباء" [ ص: 3030 ] بمعنى "مع" أي أنها كانت مع هذا الحمل الخفيف تروح وتغدو وتتقلب في أمور بيتها وفي شئونها.

                                                          المرتبة الثانية - هي أن يثقل حملها، وتشغل به، ولا تفكر هي وزوجها إلا فيه، وفي هذه الحال يشركها زوجها في شعورها ورجائها، ويضرع هو وهي إلى الله تعالى أن يجعله ذرية صالحة; ولذا قال تعالى في هذه المرحلة: فلما أثقلت أي صارت تحمل حملا ثقيلا، ونسب الإثقال إليها دون الجنين - مع أنه هو الذي أثقل - للإشارة إلى أن الأنس بالجنين والفرحة به والرغبة في استقباله تنسيها ثقله، فليس ثقيلا على نفسها، وإن أثقل جسمها.

                                                          وفي هذه المرحلة كما أشرنا يشترك الزوج والزوجة في شعور واحد وهو الدعاء له بالسلامة، وهنا لا يذكر إلا هو، ولذا قال تعالى: فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين يشتركان في الدعاء، لأنه يلتقي شعورهما، شعور الأبوة وشعور الأمومة، ولا تفكير إلا في سلامته من الآفات، ومعنى صالحا أي أن يولد قويا مستقيما في تكوينه، سويا في خلقه، ليس به آفة من آفات الخلق والتكوين، يدعون ربهما مقسمين بالله: لئن آتيتنا مولودا قويا سويا لنكونن من الشاكرين، والشكر هو شكر النعمة بالقيام بحقها وعدم الكفر بها.

                                                          والمرتبة الثالثة - أن يفصل عنها، ويلقى عنها ثقلها، ويكون حق الوفاء بعهدهما قد جاء ميقاته، ويلاحظ أنهما عندما ضرعا إلى الله تعالى; عبر عن ذلك بـ(ربهما) لأنه الخالق المربي المدبر، وهو الذي يلجأ إليه سبحانه.

                                                          ولكن هل وفيا بحق العهد واليمين؟ يجيب الله تعالى عن ذلك بقوله عز من قائل:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية