الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 1165 ] (32) يأمر تعالى الأولياء والأسياد بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى، وهم: من لا أزواج لهم من رجال ونساء ثيب وأبكار، فيجب على القريب وولي اليتيم أن يزوج من يحتاج للزواج، ممن تجب نفقته عليه، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح من تحت أيديهم كان أمرهم بالنكاح بأنفسهم من باب أولى. والصالحين من عبادكم وإمائكم يحتمل أن المراد بالصالحين صلاح الدين، وأن الصالح من العبيد والإماء - وهو الذي لا يكون فاجرا زانيا - مأمور سيده بإنكاحه؛ جزاء له على صلاحه، وترغيبا له فيه؛ ولأن الفاسد بالزنا منهي عن تزوجه، فيكون مؤيدا للمذكور في أول السورة، أن نكاح الزاني والزانية محرم حتى يتوب، ويكون التخصيص بالصلاح في العبيد والإماء دون الأحرار؛ لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة. ويحتمل أن المراد بالصالحين الصالحون للتزوج المحتاجون إليه من العبيد والإماء، يؤيد هذا المعنى أن السيد غير مأمور بتزويج مملوكه قبل حاجته إلى الزواج. ولا يبعد إرادة المعنيين كليهما، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله: إن يكونوا فقراء أي: الأزواج والمتزوجين يغنهم الله من فضله فلا يمنعكم ما تتوهمون من أنه إذا تزوج افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه. وفيه حث على التزوج، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر. والله واسع كثير الخير عظيم الفضل عليم بمن يستحق فضله الديني والدنيوي أو أحدهما ممن لا يستحق، فيعطي كلا ما علمه واقتضاه حكمه.

                                                                                                                                                                                                                                        (33) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله هذا حكم العاجز عن النكاح، أمره الله أن يستعفف، أن يكف عن المحرم، ويفعل الأسباب التي تكفه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطر بإيقاعه فيه، ويفعل أيضا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"، وقوله: الذين لا يجدون نكاحا أي: لا يقدرون نكاحا، إما لفقرهم أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من تزويجهم، وليس لهم قدرة على إجبارهم على ذلك، وهذا التقدير أحسن من تقدير من قدر: "لا يجدون مهر نكاح" وجعلوا المضاف إليه [ ص: 1166 ] نائبا مناب المضاف، فإن في ذلك محذورين: أحدهما: الحذف في الكلام، والأصل عدم الحذف.

                                                                                                                                                                                                                                        والثاني: كون المعنى قاصرا على من له حالان، حالة غنى بماله، وحالة عدم، فيخرج العبيد والإماء ومن إنكاحه على وليه، كما ذكرنا، حتى يغنيهم الله من فضله وعد للمستعفف أن الله سيغنيه وييسر له أمره، وأمر له بانتظار الفرج؛ لئلا يشق عليه ما هو فيه.

                                                                                                                                                                                                                                        وقوله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابة، وأن يشتري نفسه من عبيد وإماء، فأجيبوه إلى ما طلب، وكاتبوه، إن علمتم فيهم أي: في الطالبين للكتابة خيرا أي: قدرة على التكسب، وصلاحا في دينه؛ لأن في الكتابة تحصيل المصلحتين: مصلحة العتق والحرية، ومصلحة العوض الذي يبذله في فداء نفسه. وربما جد واجتهد وأدرك لسيده في مدة الكتابة من المال ما لا يحصل في رقه، فلا يكون ضرر على السيد في كتابته، مع حصول عظيم المنفعة للعبد، فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمر إيجاب، كما هو الظاهر، أو أمر استحباب على القول الآخر، وأمر بمعاونتهم على كتابتهم؛ لكونهم محتاجين لذلك، بسبب أنهم لا مال لهم، فقال: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها، وأمر الناس بمعونتهم، ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطا من الزكاة، ورغب في إعطائه بقوله: من مال الله الذي آتاكم أي: فكما أن المال مال الله - وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم ومحض منه - فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن الله إليكم.

                                                                                                                                                                                                                                        ومفهوم الآية الكريمة أن العبد إذا لم يطلب الكتابة، لا يؤمر سيده أن يبتدئ بكتابته، وأنه إذا لم يعلم منه خيرا بأن علم منه عكسه، إما أنه يعلم أنه لا كسب له، فيكون بسبب ذلك كلا على الناس، ضائعا، وإما أن يخاف إذا عتق وصار في حرية نفسه أن يتمكن من الفساد، فهذا لا يؤمر بكتابته، بل ينهى عن ذلك لما فيه من المحذور المذكور.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال تعالى: ولا تكرهوا فتياتكم أي: إماءكم على البغاء أي: أن تكون زانية إن أردن تحصنا لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال، وأما إذا لم ترد تحصنا فإنها تكون بغيا، يجب على سيدها منعها من ذلك، وإنما هذا نهي لما كانوا يستعملونه في الجاهلية، من كون السيد يجبر أمته على البغاء؛ ليأخذ منها أجرة [ ص: 1167 ] ذلك، ولهذا قال: لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فلا يليق بكم أن تكون إماؤكم خيرا منكم وأعف عن الزنا، وأنتم تفعلون بهن ذلك؛ لأجل عرض الحياة، متاع قليل يعرض ثم يزول.

                                                                                                                                                                                                                                        فكسبكم النزاهة والنظافة والمروءة -بقطع النظر عن ثواب الآخرة وعقابها- أفضل من كسبكم العرض القليل، الذي يكسبكم الرذالة والخسة.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم دعا من جرى منه الإكراه إلى التوبة، فقال: ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم فليتب إلى الله، وليقلع عما صدر منه مما يغضبه، فإذا فعل ذلك غفر الله ذنوبه، ورحمه كما رحم نفسه بفكاكها من العذاب، وكما رحم أمته بعدم إكراهها على ما يضرها.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية