الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 226 ] 66 - باب

                                إذا صلى ثم أم قوما

                                679 711 - حدثنا سليمان بن حرب وأبو النعمان ، قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي قومه فيصلي بهم .

                                التالي السابق


                                مراده بهذا : أن اقتداء المفترض بالمتنفل صحيح ، استدلالا بهذا الحديث .

                                وقد ذهب إلى هذا طائفة من العلماء ، منهم : طاوس وعطاء ، وقال : لم نزل نسمع بذلك .

                                وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد - في رواية - وإسحاق وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وسليمان بن حرب وسليمان بن داود الهاشمي وأبي ثور وداود والجوزجاني وابن المنذر .

                                وقد روي عن أبي الدرداء والحكم بن عمرو الغفاري وغيرهما من الصحابة ما يشهد له .

                                وذكر الشافعي أنه روي عن عمر ورجل من الأنصار وابن عباس قريب منه ، وعن أبي رجاء العطاردي والحسن ووهب بن منبه .

                                كذا قال ، والمعروف عنهما خلاف ذلك ، كما سنذكر ذلك .

                                وحكاه - أيضا - عن مسلم بن خالد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان .

                                وقال إسحاق : هو سنة مسنونة ، وهو على ما سن النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الخوف .

                                [ ص: 227 ] ونقل إسماعيل بن سعيد ، عن أحمد ، قال : لا بأس به .

                                قال : ومما يقوي حديث معاذ : حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الخوف بطائفتين ، بكل طائفة ركعتين ، ولا أعلم شيئا يدفع هذا .

                                وحديث صلاة الخوف قد خرجه البخاري من حديث جابر ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                وذهب آخرون إلى المنع من ذلك ، وأن المفترض إذا اقتدى بمتنفل لم تصح صلاته ، حكاه ابن المنذر عن الزهري وربيعة ويحيى الأنصاري ومالك وأبي حنيفة .

                                قال : وروي معناه عن الحسن وأبي قلابة .

                                قلت : وقد روي - أيضا - معناه عن سعيد بن المسيب ووهب بن منبه وابن سيرين والنخعي ، ذكره عبد الرزاق في ( كتابه ) عنهم .

                                وهو قول الثوري والحسن بن حي والليث بن سعد .

                                وهو المشهور عن أحمد ، ونقل عنه أنه رجع عن القول بخلافه ، وعلى هذا أبو بكر عبد العزيز وغيره من أصحابنا ، وأن أحمد رجع عن القول بجواز ذلك .

                                قال - في رواية المروذي - : كنت أذهب إليه - يعني : حديث معاذ - ثم ضعف عندي .

                                واعتل الإمام أحمد على حديث معاذ بأشياء :

                                أحدها : أن حديث معاذ رواه جماعة لم يذكروا فيه أن معاذا كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ذكروا أنه كان يصلي بقومه ويطيل بهم ، منهم : عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس ، وأبو الزبير عن جابر ، ومنهم : محارب بن دثار وأبو صالح عن جابر .

                                الثاني : أن الذين ذكروا : أنه كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤم [ ص: 228 ] قومه ، لم يذكر أحد منهم : أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك ، إلا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر .

                                فقال أحمد : ما أرى ذلك محفوظا ، وقال - مرة - : ليس عندي ثبتا ؛ رواه منصور بن زاذان وشعبة وأيوب ، عن عمرو بن دينار ، ولم يقولوا ما قال ابن عيينة .

                                كذا قال ، وقد رواه - أيضا - ابن عجلان ، عن عبيد الله بن مقسم ، عن جابر ، مثل رواية ابن عيينة عن عمرو .

                                وهذا أقوى الوجوه ، وهو أن من روى صلاة معاذ خلف النبي صلى الله عليه وسلم ورجوعه إلى قومه لم يذكر أحد منهم قصة التطويل والشكوى إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير ابن عيينة ، وقد تابعه ابن عجلان عن ابن مقسم ، وليس ابن عجلان بذاك القوي .

                                ومن ذكر شكوى معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الثقات الحفاظ لم يذكروا فيه أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه فيؤمهم .

                                ولم يفهم كثير من أصحابنا هذا الذي أراده الإمام أحمد على وجهه .

                                الثالث : قال في رواية حنبل : هذا على جهة التعليم من معاذ لقومه .

                                يعني : لم يكن يصلي بهم إلا ليعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما علم مالك بن الحويرث قومه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد الصلاة ، وقد سبق حديثه .

                                ولكن الفرق بينه وبين حديث معاذ : أن مالك بن الحويرث علم قومه الصلاة في غير وقت صلاة ، فكانوا كلهم متنفلين بالصلاة ، ومعاذ كان يصلي المكتوبة ، ثم يرجع إلى قومه ، وهم ينتظرونه حتى يؤمهم فيها ، فكانوا مفترضين .

                                الرابع : قال في رواية إبراهيم الحربي : إن صح ، فله معنى دقيق لا يجوز مثله اليوم .

                                [ ص: 229 ] وقد قيل : إن هذا المعنى الذي أشار إليه الإمام أحمد ، هو أنه كان في أول الإسلام ، وكان من يقرأ القرآن قليلا ، فكان يرخص لهم في ذلك توسعة عليهم ، فلما كثر القراء انتسخ ذلك ، وقد سبق نحو ذلك في إمامة الصبي أيضا .

                                وكذا روى عباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، أنه قال في حديث معاذ ، أنه كان يصلي بأصحابه ، وقد صلى قبل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم ، قال يحيى : لا أرى هذا .

                                قال عباس : معنى هذا - عندنا - : أن يحيى كان يقول : هذا في بدو الإسلام ، ومن يقرأ القرآن قليل ، فلا أرى هذا ، هذا قول يحيى عندنا .

                                وقد ذكر ابن شاهين ، عن أبي بكر النجاد ، أنه سمع إبراهيم الحربي وسئل عمن صلى فريضة خلف متطوع ؟ فقال : لا يجوز ، فقيل له : فحديث معاذ ؟ قال : حديث معاذ أعيا القرون الأولى .

                                وأجابت طائفة عن حديث معاذ بجواب آخر ، وهو : أنه يجوز أن يكون معاذ يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم تطوعا ، ثم يصلي الفريضة بقومه .

                                ورد ذلك الشافعي وأحمد .

                                وقال الشافعي : لم يكن معاذ يفوت نفسه فضل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده .

                                وخرج الدارقطني والبيهقي من رواية أبي عاصم ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر ، أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم ، هي له تطوع ولهم فريضة .

                                [ ص: 230 ] ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج نحوه ، إلا أنه قال : فيصلي بهم تلك الصلاة ، هي له نافلة ولهم فريضة .

                                ولعل هذا مدرج من قول ابن جريج . والله أعلم .

                                وقد ظن بعض فقهاء أصحابنا أن هذه الزيادة هي التي أنكرها أحمد على سفيان بن عيينة ، وهذا وهم فاحش ، فإن هذه الزيادة تفرد بها ابن جريج لا ابن عيينة .

                                وأجاب الإمام أحمد عن حديث جابر في صلاة الخوف بأن هذا جائز في صلاة الخوف دون غيرها ؛ لأنه يغتفر في صلاة الخوف ما لا يغتفر في غيرها من الأعمال ، وكذلك النيات .

                                واستدلوا على منع ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ) وقالوا : مخالفته في النية اختلاف عليه .

                                لكن جمهورهم يجيزون اقتداء المتنفل بالمفترض ، ولم يجعلوه اختلافا عليه .

                                واعلم أن جمهور العلماء في هذه المسألة على المنع ، منهم : مالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والليث وأهل مصر ، وهو قول جمهور التابعين من أهل المدينة والعراق .

                                ولكن قد قال بالجواز خلق كثير من العلماء .

                                وحديث معاذ ، قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقر عليه ، وقد توبع سفيان بن عيينة على ذلك ، كما أشرنا إليه ، ولم يظهر عنه جواب قوي .

                                فالأقوى : جواز المفترض بالمتنفل ، وقد رجح ذلك صاحب ( المغني ) وغيره من أصحابنا . والله أعلم .

                                [ ص: 231 ] وقد عارض بعضهم حديث معاذ بما روى معاذ بن رفاعة الأنصاري ، عن سليم الأنصاري - من بني سلمة - أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، إن معاذ بن جبل يأتينا بعدما ننام ، ونكون في أعمالنا في النهار ، فينادى بالصلاة ، فنخرج إليه ، فيطول علينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معاذ ، لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف على قومك ) .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وهو مرسل ؛ فإن سليما هذا قتل في يوم أحد ، وقد ذكر ذلك في تمام هذا الحديث .

                                وقال ابن عبد البر : هو منكر لا يصح .

                                قلت : لو صح فيحتمل أن يكون المراد : إما أن تقتصر على صلاتك معي فتقيم لقومك من يصلي بهم غيرك ، وإما أن تذهب إليهم فتصلي بهم وإن صليت معي لكن تخفف عليهم ولا تطيل بهم . والله سبحانه وتعالى أعلم .



                                الخدمات العلمية