الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق : أربعة أقوال :

[ ص: 199 ] أحدها : أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا ، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معا ، وهذا قول السلف .

الثاني : اسم للفظ فقط ، والمعنى ليس جزء مسماه ، بل هو مدلول مسماه ، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم .

الثالث : أنه اسم للمعنى فقط ، وإطلاقه على اللفظ مجاز ، لأنه دال عليه ، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه .

الرابع : أنه مشترك بين اللفظ والمعنى ، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية ، ولهم قول خامس ، يروى عن أبي الحسن ، أنه مجاز في كلام الله ، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم ، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم ، بخلاف كلام الله ، فإنه لا يقوم عنده بالله ، فيمتنع أن يكون كلامه . وهذا مبسوط في موضعه . وأما من قال إنه معنى واحد ، واستدل عليه بقول الأخطل :


إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

: فاستدلال فاسد . ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا هذا خبر واحد ! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به ! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل ، وليس هو في ديوانه ؟ ! وقيل إنما قال : إن البيان لفي الفؤاد وهذا أقرب إلى الصحة ، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال [ ص: 200 ] به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام ، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت ! أي : شيء من الإله بشيء من الناس ! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ ! وأيضا : فمعناه غير صحيح ، إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلما لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه ، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه ، وإنما أشير إليه إشارة .

وهنا معنى عجيب ، وهو : أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت ! فإنهم يقولون : كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه ، وأما النظم المسموع فمخلوق ، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام ، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه !

ويرد قول من قال : بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس : قوله صلى الله عليه وسلم : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس [ ص: 201 ] وقال : إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة . واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدا لغير مصلحتها بطلت صلاته . واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب ، لا يبطل الصلاة ، وإنما يبطلها التكلم بذلك . فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام .

وأيضا : ففي ( ( الصحيحين ) ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به . فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم ، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام ، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به ، والمراد : حتى ينطق به اللسان ، باتفاق العلماء . فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة ، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب .

[ ص: 202 ] وأيضا ففي السنن : أن معاذا رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم . فبين أن الكلام إنما هو باللسان . فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما ، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل - : إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظا ومعنى . ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ، ثم انتشر .

ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما - ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر ، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة ، وعرفوا معناه ، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك .

ولا شك أن من قال : إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق ، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر ، فإن [ ص: 203 ] الله تعالى يقول : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ( الإسراء : 88 ) . أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع ؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع ، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه ، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع .

وقوله : لا يأتون بمثله أفتراه سبحانه يقول : لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه ، وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ، ولا إلى الوقوف عليه .

فإن قالوا : إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع ، فأما أن يشير إلى ذاته فلا - فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق ، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة ، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه . وهذا تصريح بأن صفات الله محكية ، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله ، فأين عجزهم ؟ ! ويكون التالي - في زعمهم - قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف . وليس القرآن إلا سورا مسورة ، وآيات مسطرة ، في صحف مطهرة . قال تعالى : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( هود : 13 ) . بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ( العنكبوت : 49 ) . في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة ( عبس : 13 - 14 ) . ويكتب لمن قرأه بكل حرف عشر حسنات . قال صلى الله عليه وسلم : أما إني لا أقول ( الم ) حرف ، ولكن ألف حرف ، [ ص: 204 ] ولام حرف ، وميم حرف . وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين . قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في ( ( المنار ) ) : إن القرآن اسم للنظم والمعنى . وكذا قال غيره من أهل الأصول . وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله : أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه - فقد رجع عنه - وقال : لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية . وقالوا : لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم به بهذه اللغة ، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية