الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب العاقلة هل تعقل العمد قال الله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان وقد قدمنا تأويل من تأوله على عفو بعض الأولياء عن نصيبه من الدم ، ووجوب الأرش للباقين ، واحتمال اللفظ لذلك ، وفيه دلالة على أن الواجب على القاتل الذي لم يعف في ماله ، وكذلك كل عمد فيه القود فهو على الجاني في ماله ، كالأب إذا قتل ابنه ، وكالجراحة فيما دون النفس ، ولا يستطاع فيها القصاص نحو قطع اليد من نصف الساعد ، والمنقلة والجائفة ، فالعامد والمخطئ إذا قتلا أن على العامد نصف الدية في ماله ، والمخطئ على عاقلته ، وهو قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري والشافعي . وقال ابن وهب ، وابن القاسم عن مالك : " هي على العاقلة " وهو آخر قول مالك .

قال ابن القاسم : " ، ولو قطع يمين رجل ، ولا يمين له كانت دية اليد في ماله ، ولا تحملها العاقلة " . وقال الأوزاعي : " هو في مال الجاني فإن لم يبلغ ذلك ماله حمل على عاقلته ، وكذلك إذا قتلت المرأة زوجها متعمدة ، ولها منه أولاد فديته في مالها خاصة ، فإن لم يبلغ ذلك مالها حمل على عاقلتها " قال أبو بكر : دلالة الآية ظاهرة على أن الصلح عن دم العمد ، وسقوط القود بعفو بعض الأولياء يوجب الدية في مال الجاني ؛ لأنه تعالى قال : فمن عفي له من أخيه شيء وهو يعني القاتل إذا كان المعنى عفو بعض الأولياء ، ثم قال : فاتباع بالمعروف يعني اتباع الولي للقاتل ، ثم قال : وأداء إليه بإحسان يعني أداء القاتل ، [ ص: 196 ] فاقتضى ذلك وجوبه في مال القاتل . وكذلك تأويل من تأوله على التراضي عن الصلح على مال ففيه وجوب الأداء على القاتل دون غيره ، إذ ليس للعاقلة ذكر في الآية ، وإنما فيها ذكر الولي والقاتل .

وروى ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا أحمد بن الفضل الخطيب قال : حدثنا إسماعيل بن موسى قال : حدثنا شريك عن جابر بن عامر قال : " اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا " .

وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة قتادة بن عبد الله المدلجي الذي قتل ابنه : " أن عمر جعل عليه مائة من الإبل ، وأعطاها إخوته ، ولم يورثه منها شيئا " فجعل ذلك في ماله لما كان عمدا ، ولما ثبت ذلك في النفس ، ولم يخالف عمر فيه غيره من الصحابة كان كذلك حكم ما دونها إذا سقط القصاص . ، وروى هشام بن عروة عن أبيه قال : " ليس على العاقلة عقل في عمد وإنما عليهم الخطأ " وقال عروة أيضا : " ما كان من صلح فلا تعقله العشيرة إلا أن تشاء " .

وقال قتادة : " كل شيء لا يقاد منه فهو في مال الجاني " . وقال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم : " لا تعقل العاقلة صلحا ولا عمدا ولا اعترافا " .

قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياة للناس وسببا لبقائهم ؛ لأن من قصد قتل إنسان رده عن ذلك علمه بأنه يقتل به . ودل على وجوب القصاص عموما بين الحر والعبد والرجل والمرأة والمسلم والذمي ؛ إذ كان الله تعالى مريدا لتبقية الجميع ، فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء ، فوجب استواء الحكم في جميعهم .

وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم ؛ إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجودا في غيرهم ، وإنما وجه تخصيصه لهم أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به ، وينتهون إلى ما يؤمرون به ، ويزدجرون عما يزجرون عنه . وهذا كقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها هو منذر لجميع المكلفين ، ألا ترى إلى قوله تعالى : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ونحو قوله : هدى للمتقين وهو هدى للجميع ، وخص المتقين لانتفاعهم به ، ألا ترى إلى قوله في آية أخرى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ؟ فعم الجميع به . وكقوله : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا لأن التقي هو الذي يعيذ من استعاذ بالله . وقد ذكر عن [ ص: 197 ] بعض الحكماء أنه قال : " قتل البعض إحياء الجميع " .

وعن غيره : " القتل أقل للقتل " و " أكثروا القتل ليقل القتل " وهو كلام سائر على ألسنة العقلاء ، وأهل المعرفة ، وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة ، وصحة المعنى .

وذلك يظهر عند التأمل من وجوه :

أحدها : أن قوله تعالى : في القصاص حياة هو نظير قولهم : " قتل البعض إحياء للجميع . والقتل أقل للقتل " وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حكي عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ، ولا يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم ؛ لأنه ذكر القتل على وجه العدل لذكره القصاص ، وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجري بإيجابه القصاص ، وهو الحياة .

وقولهم : " القتل أقل للقتل " " وقتل البعض إحياء الجميع " و " القتل أنفى للقتل " إن حمل على حقيقته لم يصح معناه ؛ لأنه ليس كل قتل هذه صفته ، بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد ، فليست هذه منزلته ، ولا حكمه .

فحقيقة هذا الكلام غير مستعملة ، ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أي قتل هو إحياء للجميع . فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في إفادة حكمه ، وما ذكره الله تعالى من قوله : ولكم في القصاص حياة مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة حروفه ، ألا ترى أن قوله تعالى : في القصاص حياة أقل حروفا من قولهم : " قتل البعض إحياء للجميع " و " القتل أقل للقتل ، وأنفى للقتل " ؟

ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله : في القصاص حياة على قولهم : " القتل أقل للقتل ، وأنفى للقتل " أن في قولهم تكرار اللفظ ، وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة ، أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد ، ولا يصح مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى : وغرابيب سود ونحو قول الشاعر :

وألفى قولها كذبا ومينا

كرر المعنى الواحد بلفظين ، وكان ذلك سائغا ، ولا يصح مثله في تكرار اللفظ . وكذلك قوله : ولكم في القصاص حياة لا تكرار فيه مع إفادته للقتل من جهة القاتل ، إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك ، ألا ترى أنه لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه ؟ وفي قولهم ذكر للقتل وتكرار له في اللفظ ، وذلك نقصان في البلاغة ، فهذا وأشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر ؛ إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى .

[ ص: 198 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية