الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما تقديم النقل عليه فلا يستلزم فساد النقل في نفسه ومما يوضح هذا أن يقال:

معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق، دليل على تناقض دلالته، وذلك يوجب فسادها، وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها في نفسها، وإن لم يعلم صحتها.

وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم ما لم يعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده، كالشاهد الذي علم أنه يصدق ويكذب، والشاهد المجهول الذي لم يعلم كذبه، فإن تقديم قول الفاسق المعلوم كذبه على قول المجهول الذي لم يعلم كذبه لا يجوز، فكيف إذا كان الشاهد هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته؟

والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال: إنه أخبر بخلاف الحق، كان هو قد شهد للسمع بأنه يجب قبوله، وشهد له بأنه لا يجب قبوله، وشهد بأن الأدلة السمعية حق، وأن ما أخبر به السمع فهو حق، وشهد بأن ما أخبر به السمع فليس بحق، فكان مثله مثل من شهد لرجل بأنه صادق لا يكذب، وشهد له بأنه قد كذب، فكان هذا قدحا في شهادته مطلقا وتزكيته، فلا يجب قبول شهادته الأولى ولا الثانية، فلا يصلح أن يكون معارضا للسمع بحال. [ ص: 172 ]

ولهذا تجد هؤلاء الذين تتعارض عندهم دلالة العقل والسمع في حيرة وشك واضطراب، إذ ليس عندهم معقول صريح سالم عن معارض مقاوم، كما أنهم أيضا في نفس المعقول الذي يعارضون به السمع في اختلاف وريب واضطراب.

وذلك كله مما يبين أنه ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل، وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل، وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق، وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب، لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ، كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.

فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق، لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي.

فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما قاطعا أنه حق، وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به، وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي، لا عقلي ولا سمعي، وأن كل ما ظن أنه عارضه من ذلك فإنما هو حجج داحضة، وشبه من جنس شبه السوفسطائية.

وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك، وأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل صحيح، كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما خالف خبر الرسول فهو باطل، فيكون هذا العقل والسمع جميعا شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع. [ ص: 173 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية