الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في استقبال المصلي على الأرض :

                                                                                                                                                                        وله أحوال :

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يصلي في جوف الكعبة فتصح الفريضة والنافلة .

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا : والنفل فيها أفضل منه خارجها ، وكذا الفرض إن لم يرج جماعة فإن رجاها فخارجها أفضل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 215 ] ثم له أن يستقبل أي جدار شاء ، وله استقبال الباب ، إن كان مردودا ، أو مفتوحا ، وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا . هذا هو الصحيح .

                                                                                                                                                                        ولنا وجه : أنه يشترط في العتبة ، أن تكون بقدر قامة المصلي طولا وعرضا ، ووجه : أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - وبقي موضعها عرصة فوقف خارجها وصلى إليها جاز . فإن صلى فيها فله حكم السطح .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : وهو أن يقف على سطحها ، فإن لم يكن بين يديه شيء شاخص لم يصح على الصحيح .

                                                                                                                                                                        وإن كان شاخص من نفس الكعبة فله حكم العتبة . إن كان ثلثي ذراع جاز ، وإلا فلا على الصحيح ، وفيه الوجهان الآخران .

                                                                                                                                                                        ولو وضع بين يديه متاعا ، واستقبله ، لم يكف ، ولو استقبل بقية حائط أو شجرة ثابتة جاز ، ولو جمع تراب العرصة واستقبله أو حفر حفرة ووقف فيها ، أو وقف في آخر السطح ، أو العرصة ، وتوجه إلى الجانب الآخر وهو مرتفع عن موقفه جاز .

                                                                                                                                                                        ولو استقبل حشيشا نابتا عليها أو خشبة أو عصا مغروزة غير مسمرة ، لم يكف على الأصح ، وإن كانت العصا مثبتة ، أو مسمرة ، كفت قطعا . لكن قال إمام الحرمين : إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها ، كان على الخلاف الآتي ، فيمن خرج بعض بدنه عن محاذاة الكعبة .

                                                                                                                                                                        قلت : لم يجزم إمام الحرمين بأنه يكون على ذلك الخلاف . بل قال : في هذا ، تردد ظاهر عندي .

                                                                                                                                                                        وظاهر كلام الأصحاب : القطع بالصحة في مسألة العصا ؛ لأنه يعد مستقبلا ، بخلاف مسألة طرف الركن . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحال الرابع : أن يصلي عند طرف ركن الكعبة ، وبعض بدنه يحاذيه ، وبعضه يخرج عنه ، فلا تصح صلاته على الأصح .

                                                                                                                                                                        ولو وقف الإمام بقرب الكعبة عند المقام ، أو غيره ، ووقف القوم خلفه مستديرين بالبيت ، جاز ، ولو وقفوا [ ص: 216 ] في أخريات المسجد ، وامتد صف طويل ، جاز ، وإن وقفوا بقربه ، وامتد الصف ، فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة .

                                                                                                                                                                        الحال الخامس : أن يصلي بمكة خارج المسجد . فإن عاين الكعبة ، كمن يصلي على [ جبل ] أبي قبيس ، صلى إليها ، ولو بنى محرابه على العيان صلى إليه أبدا ، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة ، وفي معنى المعاين من نشأ بمكة وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة ، فإن لم يعاين ولا تيقن الإصابة فله اعتماد الأدلة والعمل بالاجتهاد إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي كالجبل ، وكذا إن كان الحائل طارئا كالبناء على الأصح ، للمشقة في تكليف المعاينة .

                                                                                                                                                                        الحال السادس : أن يصلي بالمدينة ، فمحراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نازل منزلة الكعبة . فمن يعاينه ، يستقبله ، ويسوي محرابه عليه ، بناء على العيان ، أو الاستدلال ، كما ذكرنا في الكعبة ، ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال .

                                                                                                                                                                        وفي معنى المدينة ، سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب ، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين ، وفي الطريق التي هي جادتهم يتعين استقبالها ولا يجوز الاجتهاد .

                                                                                                                                                                        وكذا القرية الصغيرة ، إذا نشأ فيها قرون من المسلمين ، ولا اعتماد على علامة بطريق يندر مرور الناس به ، أو يستوي مرور المسلمين والكفار به أو بقرية خربة ، لا يدرى ، بناها المسلمون أو الكفار ؟ بل يجتهد .

                                                                                                                                                                        ثم هذه المواضع التي منعنا الاجتهاد فيها في الجهة ، هل يجوز في التيامن والتياسر إن كان محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا يجوز بحال .

                                                                                                                                                                        ولو تخيل حاذق في معرفة القبلة فيه تيامنا أو تياسرا فليس له ذلك وخياله باطل ، وأما سائر البلاد ، فيجوز على الأصح الذي قطع به الأكثرون ، والثاني : لا يجوز ، والثالث : لا يجوز في الكوفة خاصة ، والرابع : لا يجوز في الكوفة والبصرة ، لكثرة من دخلهما من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 217 ] الحال السابع : إذا كان بموضع لا يقين فيه .

                                                                                                                                                                        اعلم أن القادر على يقين القبلة ، لا يجوز له الاجتهاد ، وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها ، وجهان :

                                                                                                                                                                        الأصح : المنع ؛ لأن كونه من البيت غير مقطوع به بل هو مظنون .

                                                                                                                                                                        ثم اليقين ، قد يحصل بالمعاينة ، وبغيرها . كالناشئ بمكة ، العارف يقينا بأمارات ، وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين ، لا يجوز اعتماد قول غيره .

                                                                                                                                                                        وأما غير القادر على اليقين ، فإن وجد من يخبره بالقبلة عن علم ، اعتمده ، ولم يجتهد ، بشرط عدالة المخبر ، يستوي فيه الرجل والمرأة والعبد ، ولا يقبل كافر قطعا ، ولا فاسق ولا صبي ، ولا مميز على الصحيح فيهما .

                                                                                                                                                                        ثم قد يكون الخبر صريح لفظ ، وقد يكون دلالة ، كالمحراب المعتمد ، وسواء في العمل بالخبر ، أهل الاجتهاد وغيرهم . حتى الأعمى يعتمد المحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمده البصير ، وكذا البصير في الظلمة .

                                                                                                                                                                        وقال صاحب ( العدة ) : إنما يعتمد الأعمى على المس ، في محراب رآه قبل العمى . فإن لم يكن شاهده ، لم يعتمده ، ولو اشتبه عليه مواضع لمسها فلا شك أنه يصبر حتى يخبره غيره صريحا .

                                                                                                                                                                        فإن خاف فوت الوقت صلى على حسب حاله وأعاد . هذا كله إذا وجد من يخبره عن علم ، وهو ممن يعتمد قوله . أما إذا لم يجد العاجز من يخبره فتارة يقدر على الاجتهاد وتارة لا يقدر .

                                                                                                                                                                        فإن قدر ، لزمه واستقبل ما ظنه القبلة ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة ، وهي كثيرة فيها كتب مصنفة ، وأضعفها الرياح لاختلافها .

                                                                                                                                                                        وأقواها القطب ، وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى ، بين الفرقدين والجدي إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى ، كان مستقبلا القبلة إن كان بناحية الكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان ، وما والاها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 218 ] وليس للقادر على الاجتهاد تقليد غيره . فإن فعل وجب قضاء الصلاة ، وسواء خاف خروج الوقت أم لم يخفه .

                                                                                                                                                                        لكن إن ضاق الوقت صلى كيف كان وتجب الإعادة . هذا هو الصحيح ، وفيه وجه لابن سريج : أنه يقلد عند خوف الفوات ، وفي وجه ثالث : يصبر إلى أن تظهر القبلة ، وإن فات الوقت ، ولو خفيت الدلائل على المجتهد لغيم أو ظلمة أو تعارض أدلة فثلاثة طرق ؛ أصحها : قولان :

                                                                                                                                                                        أظهرهما : لا يقلد ، والثاني : يقلد ، والطريق الثاني : يقلد ، والثالث : يصلي بلا تقليد كيف كان ويقضي . فإن قلنا : يقلد لم يلزمه الإعادة على الصحيح وقول الجمهور .

                                                                                                                                                                        قال إمام الحرمين : هذه الطرق إذا ضاق الوقت ، وقبل ضيقه ، يصبر ، ولا يقلد قطعا ، لعدم الحاجة . قال : وفيه احتمال من التيمم أول الوقت . أما إذا لم يقدر على الاجتهاد ، فإن عجز عن تعلم أدلة القبلة ، كالأعمى والبصير الذي لا يعرف الأدلة ، ولا له أهلية معرفتها ، وجب عليه تقليد مكلف مسلم عدل عارف بالأدلة ، سواء فيه الرجل والمرأة والعبد .

                                                                                                                                                                        وفي وجه شاذ : له تقليد صبي مميز ، والتقليد : قبول قوله المستند إلى الاجتهاد . فلو قال بصير : رأيت القطب ، أو رأيت الخلق العظيم من المسلمين يصلون إلى هنا ، كان الأخذ به قبول خبر لا تقليدا .

                                                                                                                                                                        ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين ، قلد من شاء منهما على الصحيح ، والأولى تقليد الأوثق والأعلم ، وقيل : يجب ذلك .

                                                                                                                                                                        وقيل : يصلي مرتين إلى الجهتين ، وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبنى على أن تعلمها فرض كفاية أم عين ؟ والأصح : فرض عين .

                                                                                                                                                                        قلت : المختار ما قاله غيره ؛ أنه إن أراد سفرا ففرض عين ؛ لعموم حاجة المسافر إليها ، وكثرة الاشتباه عليه ، وإلا ففرض كفاية ، إذا لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم السلف ألزموا آحاد الناس بذلك ، بخلاف أركان الصلاة وشروطها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 219 ] فإن قلنا : ليس بفرض عين ، صلى بالتقليد ، ولا يقضي كالأعمى ، وإن قلنا : فرض عين ، لم يجز التقليد .

                                                                                                                                                                        فإن قلد قضى لتقصيره ، وإن ضاق الوقت عن التعلم ، فهو كالعالم إذا تحير ، وتقدم الخلاف فيه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية