الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما الذي يرجع إلى .

                                                                                                                                الصيد فنقول : لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول عندنا إلا المؤذي المبتدئ بالأذي غالبا .

                                                                                                                                والكلام في هذا الفصل يقع في مواضع في تفسير الصيد أنه ما هو ؟ وفي بيان [ ص: 196 ] أنواعه ، وفي بيان ما يحل اصطياده للمحرم وما يحرم عليه ، وفي بيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده أما الأول فالصيد هو الممتنع المتوحش من الناس في أصل الخلقة إما بقوائمه ، أو بجناحه ، فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل ، والبقر ، والغنم ، لأنها ليست بصيد لعدم الامتناع والتوحش من الناس .

                                                                                                                                وكذا الدجاج والبط الذي يكون في المنازل وهو المسمى بالبط الكسكري لانعدام معنى الصيد فيهما ، وهو الامتناع والتوحش .

                                                                                                                                فأما البط الذي يكون عند الناس ويطير فهو صيد لوجود معنى الصيد فيه ، والحمام المسرول صيد وفيه الجزاء عند عامة العلماء .

                                                                                                                                وعند مالك ليس بصيد .

                                                                                                                                وجه قوله : إن الصيد اسم للمتوحش ، والحمام المسرول مستأنس ، فلا يكون صيدا كالدجاج والبط الذي يكون في المنازل ، ولنا أن جنس الحمام متوحش في أصل الخلقة ، وإنما يستأنس البعض منه بالتولد والتأنيس مع بقائه صيدا كالظبية المستأنسة ، والنعامة المستأنسة والطوطي ونحو ذلك حتى يجب فيه الجزاء .

                                                                                                                                وكذا المستأنس في الخلقة قد يصير مستوحشا كالإبل ، إذا توحشت وليس له حكم الصيد حتى لا يجب فيه الجزاء ، فعلم أن العبرة بالتوحش ، والاستئناس في أصل الخلقة .

                                                                                                                                وجنس الحمام متوحش في أصل الخلقة وإنما يستأنس البعض منه لعارض ، فكان صيدا بخلاف البط الذي يكون عند الناس في المنازل ، فإن ذلك ليس من جنس المتوحش ، بل هو من جنس آخر ، والكلب ليس بصيد ; لأنه ليس بمتوحش بل هو مستأنس ، سواء كان أهليا أو وحشيا ; لأن الكلب أهلي في الأصل ، لكن ربما يتوحش لعارض فأشبه الإبل إذا توحشت .

                                                                                                                                وكذا السنور الأهلي ليس بصيد ; لأنه مستأنس .

                                                                                                                                وأما البري ففيه روايتان : روى هشام عن أبي حنيفة أن فيه الجزاء ، وروى الحسن عنه أنه لا شيء فيه كالأهلي .

                                                                                                                                وجه رواية هشام : أنه متوحش فأشبه الثعلب ونحوه .

                                                                                                                                وجه رواية الحسن : أن جنس السنور مستأنس في أصل الخلقة ، وإنما يتوحش البعض منه لعارض فأشبه البعير إذا توحش ، ولا بأس بقتل البرغوث ، والبعوض ، والنملة ، والذئاب والحلم ، والقراد ، والزنبور ; لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع ، ألا ترى أنها تطلب الإنسان مع امتناعه منها ؟ ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بعيره وهو محرم ; ولأن هذه الأشياء من المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا ، فالتحقت بالمؤذيات المنصوص عليها من الحية ، والعقرب وغيرهما ، ولا يقتل القملة لا لأنها صيد بل لما فيها من إزالة التفث ; لأنه متولد من البدن كالشعر ، والمحرم منهي عن إزالة التفث من بدنه فإن قتلها تصدق بشيء كما لو أزال شعرة ، ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الصدقة ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال : إذا قتل المحرم قملة أو ألقاها أطعم كسرة ، وإن كانتا اثنتين أو ثلاثا أطعم قبضة من الطعام ، وإن كانت كبيرة أطعم نصف صاع .

                                                                                                                                وكذا لا يقتل الجرادة ; لأنها صيد البر أما كونه صيدا فلأنه متوحش في أصل الخلقة وأما كونه صيد البر ; فلأن توالده في البر ، ولذا لا يعيش إلا في البر حتى لو وقع في الماء يموت فإن قتلها تصدق بشيء من الطعام ، وقد روي عن عمر أنه قال : " ثمرة خير من جرادة " ولا بأس له بقتل هوام الأرض من : الفأرة ، والحية والعقرب ، والخنافس ، والجعلان ، وأم حبين ، وصياح الليل ، والصرصر ونحوها ; لأنها ليست بصيد ، بل من حشرات الأرض .

                                                                                                                                وكذا القنفذ وابن عرس ; لأنهما من الهوام حتى قال أبو يوسف : " ابن عرس من سباع الهوام " ، والهوام ليست بصيد ; لأنها لا تتوحش من الناس .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف : " في القنفذ الجزاء ; لأنه من جنس المتوحش ولا يبتدئ بالأذى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية