الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الدعوة إلى الله

                                                          خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها [ ص: 3041 ] قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

                                                          بعد أن بين الله - سبحانه وتعالى - أن البراهين العقلية لا تجدي معهم، وأن الأدلة الحسية لا ترشدهم، وأنهم في الغي يعمهون فيه - أمر الله تعالى نبيه أن يستمر في دعوة الحق في رفق وحكمة، وأن يبين مكارم الشريعة في ذاتها، فإنها بما فيها من صلاح ودفع فساد وهداية - داعية لنفسها من غير برهان ولا دليل مع التأليف، كما قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تآلفوا النفوس".

                                                          والآيات الكريمة تبين:

                                                          أولا - جماع مكارم الأخلاق في قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

                                                          وثانيا - تبين علاج النفس إذا عراها نزغ الشيطان وفساده بالغضب أو الجهل والحمق، وهو الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وذلك بقوله تعالى: وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم

                                                          فالالتجاء إلى الله في أزمات النفس فيه النجاة كالالتجاء إليه سبحانه في الكروب.

                                                          وثالثا - أن ذكر الله تعالى يبصر القلب بعماه إذا ضل، وما ضل الذين ضلوا إلا بتركهم لذكر الله، وقد بين ذلك بقوله تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون

                                                          [ ص: 3042 ] ورابعا - وتبين أن عدوى الشر تجيء من إخوان السوء، وهم الذين يمدون في الغي ويجعلون الضال يسير شاردا عن هداه، وقد بين - سبحانه وتعالى - ذلك بقوله: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون

                                                          وخامسا - أن ضلال الضالين إنما يكون بإغوائهم بطلب آيات يريدونها ويريدون أن يجتبيها لهم، ومصداق هذا قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

                                                          هذه آيات بينات وهي تكشف معانيها من غير تبيين مبين، ولا تفسير مفسر، فهي كتاب مبين واضح، ولكن ما نذكر من بيان ليس تفسيرا، إنما ذكر لنسق القرآن الحكيم، وضرب في ناحية من إعجازه الذي لا تتطاول إليه الأعناق، فهي تنهد إليه وتتسامى ولا تسمو، وتحاول ولا تصل.

                                                          خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين العفو هو الزائد الميسر الذي يسهل أخذه، ويسهل إعطاؤه، ويسهل القيام به، فالنص داع لمن يعطي بأن يعطي السهل الذي يمكن المداومة عليه من غير ضيق وتبرم، كما قال تعالى: ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ويقبل من الناس القليل، ولا يكلفهم ما لا يطيقون من قول أو عمل، ويفعل اليسير من العبادات الذي يمكن المداومة عليه، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب الديمة من الأعمال ".

                                                          وإن العفو السهل اليسير يسهل المداومة عليه، والاستمرار في عمله، واقبل من الناس ما يسهل عليهم ولا تكلفهم شططا، واجعل العفو دائما شعارك، لا تشتط في الطلب، ولا تعاسر الناس بل خذهم برفق; فإنك إن فعلت كسبت خيرهم، واجتنبت شرهم، وكنت أليفا مألوفا.

                                                          [ ص: 3043 ] هذا هو الأمر الأول، أما الثاني فهو قوله تعالى لنبيه: وأمر بالعرف أي: مر بالأمر الحسن في ذاته الذي تألفه العقول، ويألفه الناس ويدركونه، وإن هذا يجمع كل ما أمرت به الشرائع الإلهية في معاملات الناس، وفي اجتماعهم، ولقد روينا في عدة مناسبات قول الأعرابي الذي سئل: لماذا آمنت بمحمد؟ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: (افعل) والعقل يقول: (لا تفعل) وما رأيت محمدا يقول في أمر: (لا تفعل) والعقل يقول: (افعل).

                                                          وإن هذا النص الكريم يدل قطعا على أن كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء به القرآن أمر متفق مع ما تأتي به العقول، وما أمر به هو حسن في ذاته، وما نهى عنه قبيح في ذاته، وقال بعض العلماء: إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه.

                                                          وقد أسرف ناس على أنفسهم وعلى الله فظنوا أن ما يستحسنونه أو يقبحونه فلهم أن يمنعوه وإن أباحه الله، ولهم أن يوجبوه وإن منعه الله: كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا

                                                          وقوله في الأمر الثالث: وأعرض عن الجاهلين أي: أهل الحمق والجهل، الذين لا يهتدون بهدى، ولا يسمعون مرشدا، بل يعملون على إيذاء الداعي، ويستهزئون بالمرشد، وهؤلاء ليس لهم إلا أن يعرضوا عن هؤلاء، كقوله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وكقوله تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما

                                                          ولما نزلت هذه الآية قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك" .

                                                          [ ص: 3044 ] وفي الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت محاسن الشريعة، وحكمت بين الناس.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية