الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون ) : لما ذكر [ ص: 79 ] تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ; ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد ، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة ، حتى أذن لهم ، فكشف الله للرسول صلى الله عليه وسلم عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم ، فأنزل الله عليه : ( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ) الآية ، أي : عن غزوة تبوك . وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا ، فأذن لهم . وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد . ولفظة ( المخلفون ) تقتضي الذم والتحقير ، ولذلك جاء ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف ) ، وهي أمكن من لفظة المتخلفين ، إذ هم مفعول بهم ذلك ، ولم يفرح إلا منافق ، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر . ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان والمصدر ، وهو هنا للمصدر ، أي : بقعودهم ، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة . وانتصب ( خلاف ) على الظرف ، أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقال : فلان أقام خلاف الحي ، أي بعدهم ، إذا ظعنوا ولم يظعن معهم . قاله أبو عبيدة ، والأخفش ، وعيسى بن عمرو . قال الشاعر :


عقب الربيع خلافهم فكأنما نشط الشواطب بينهن حصيرا



ومنه قول الشاعر :


فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى     تأهب لأخرى مثلها وكأن قد



ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عباس ، وأبي حيوة ، وعمرو بن ميمون : " خلف رسول الله " . وقال قطرب ، ومؤرج ، والزجاج ، والطبري : انتصب ( خلاف ) على أنه مفعول لأجله ، أي : لمخالفة رسول الله ، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا . ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ : ( خلف ) بضم الخاء ، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين ، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثوابا ، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقابا . وفي قوله : ( فرح ) ( وكرهوا ) مقابلة معنوية ، لأن الفرح من ثمرات المحبة . وفي قوله : ( أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ) تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظيمة ، أي : كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله ، وآثروا ذلك على الدعة والخفض ، وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان . والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج ، وكأن الفرح بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد ، وكراهة الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف . واستعذروا بشدة الحر ، فأجاب الله تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر ، وقالوا : إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلا . وقيل : قالوا للمؤمنين : لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسل حتى أرادوا أن يكسبوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر . قال ابن عباس ، وأبو رزين والربيع : قال رجل : يا رسول الله ، الحر شديد ، فلا تنفر في الحر . وقال محمد بن كعب : هو رجل من بني سلمة . انتهى . أي : قال ذلك عن لسانهم ، فلذلك جاء ( وقالوا ) بلفظ الجمع . وكانت غزوة تبوك في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : ( قل نار جهنم أشد حرا ) ، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم : إذا كنتم تجزعون من حر القيظ ، فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم . قال الزمخشري : ( قل نار جهنم أشد حرا ) استجهال لهم ؛ لأن من تصون من مشقة ساعة فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :


مسرة أحقاد تلقيت بعدها     مساءة يوم أرى بها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة     وراء تقضيها مساءة أحقاب



[ ص: 80 ] انتهى . وقرأ عبيد الله : ( يعلمون ) مكان " يفقهون ( ، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير ؛ لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه ، ولما روى عنه الأئمة . والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر ، والمعنى : فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا ، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره . روي أن أهل النفاق يكونون في النار عمر الدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ، ولا يكتحلون بنوم . والظاهر أن قوله : ( فليضحكوا قليلا ) إشارة إلى مدة العمر في الدنيا ، ( وليبكوا كثيرا ) إشارة إلى تأبيد الخلود ، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون صفة حالهم ، أي : هم لما هم عليه من الخطر مع الله وسوء الحال ، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم كثيرا من أجل ذلك ، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا ; نحو قوله عليه السلام لأمته : ) لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا " وانتصب ( قليلا ) و ( كثيرا ) على المصدر ، لأنهما نعت للمصدر ، أي : ضحكا قليلا وبكاء كثيرا . وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت ، ويقوم نعته مقامه ، وذلك لدلالة الفعل عليه . وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكونا نعتا لظرف محذوف ، أي : زمانا قليلا ، وزمانا كثيرا . انتهى . والأول أجود ؛ لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ، ودلالته على الزمان بهيئته ، فدلالته على المصدر أقوى . وانتصب ( جزاء ) على أنه مفعول لأجله ، وهو متعلق بقوله : ( وليبكوا كثيرا ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية