الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ) : الخطاب للرسول ، والمعنى : فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك . قيل : ودخول " إن " هنا ، وهي للممكن وقوعه غالبا - إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره ، إلا أن يعلمه الله ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : ( قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ، ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) قال نحوه ابن عطية وغيره . ( إلى طائفة منهم ) لأن منهم من مات ، ومنهم من تاب وندم ، ومنهم من تخلف لعذر صحيح . فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه ، هكذا قيل . وإذا كان الضمير في ( منهم ) عائدا على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا ، فالذي يظهر أن ذكر الطائفة هو لأجل أن منهم من مات . قال ابن عطية : ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب على أن لا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم . وقوله : ( وماتوا وهم فاسقون ) نص في موافاتهم . ومما يؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عينهم لحذيفة بن اليمان ، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها . وروي عن حذيفة أنه قال يوما : بقي من المنافقين كذا وكذا . وقال له عمر بن الخطاب : أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال : لا والله ، لا أمنت منها أحدا بعدك . وأمر الله نبيه أن يقول لهم : ( لن تخرجوا معي ) هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب .

قال الزمخشري : ( فاستأذنوك للخروج ) يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق ، بخلاف غيرهم من المخلفين . انتهى . وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة ، إلى الأشق وهو قتال العدو ؛ لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ثم [ ص: 81 ] علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة ، ورضاهم ناشئ عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله في قوله : ( انفروا خفافا وثقالا ) وقالوا هم : ( لا تنفروا في الحر ) ، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشئ عن السبب وهو النفاق . و ( أول مرة ) هي الخرجة إلى غزوة تبوك . و ( مرة ) مصدر ; كأنه قيل : أول خرجة دعيتم إليها ؛ لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة ، فلا بد من تقييدها ؛ إذ الأولية تقتضي السبق . وقيل : التقدير : أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه . وقيل : ( أول مرة ) قبل الاستئذان . وقال أبو البقاء : ( أول مرة ) ظرف ، ونعني ظرف زمان ، وهو بعيد .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ( مرة ) نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات ؟ قلت : أكثر اللغتين هند أكبر النساء ، وهي أكبرهن . ثم إن قولك : هي كبرى امرأة - لا تكاد تعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة . انتهى . ( فاقعدوا مع الخالفين ) ، أي : أقيموا ، وليس أمرا بالقعود الذي هو نظير الجلوس ، وإنما المراد منعهم من الخروج معه . قال أبو عبيدة : الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله ، وهو الذي يتخلف عن القوم . وقيل : الخالفين المخالفين ، من قولهم : عبد خالف ، أي : مخالف لمولاه . وقيل : الأخساء الأدنياء من قولهم : فلان خالفة قومه ; لأخسهم وأرذلهم . ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد ، وقطع العلقة بينهما ، والاحتراز منه . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا . قال ابن عطية : والخالفون جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر . غلب المذكر ، فجمع بالواو والنون ، وإن كان ثم نساء ، وهو جمع خالف . وقال قتادة : الخالفون النساء ، وهذا مردود . وقال ابن عباس : هم الرجال . وقال الطبري : يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد ، ومنه خلوف فم الصائم . وقرأ مالك بن دينار وعكرمة : ( مع الخالفين ) ، وهو مقصور من ( الخالفين ) كما قال : عددا وبددا يريد عاددا وباددا ، وكما قال الآخر :


مثل النقى لبده ضرب الظلل



يريد الظلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية