الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان حكم ما يحرم على المحرم اصطياده إذا اصطاده فالأمر لا يخلو إما أن قتل الصيد ، وإما أن جرحه ، وإما أن أخذه فلم يقتله ولم يجرحه ، فإن قتله فالقتل لا يخلو ، إما أن يكون مباشرة ، أو تسيبا ، فإن كان مباشرة فعليه قيمة الصيد المقتول يقومه ذوا عدل لهما بصارة بقيمة الصيود فيقومانه في المكان الذي أصابه إن كان موضعا تباع فيه الصيود ، وإن كان في مفازة يقومانه في أقرب الأماكن من العمران إليه ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي ، فالقاتل بالخيار إن شاء أهدى ، وإن شاء أطعم ، وإن شاء صام ، وإن لم يبلغ قيمته ثمن هدي فهو بالخيار بين الطعام والصيام ، سواء كان الصيد مما له نظير ، أو كان مما لا نظير له .

                                                                                                                                وهذا قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وحكى الطحاوي قول محمد : أن الخيار للحكمين إن شاءا حكما عليه هديا ، وإن شاءا طعاما ، وإن شاءا صياما ، فإن حكما عليه هديا نظر القاتل إلى نظيره من النعم من حيث الخلقة والصورة إن كان الصيد مما له نظير ، سواء كان قيمة نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر إلى القيمة ، بل إلى الصورة والهيئة ، فيجب في الظبي شاة وفي الضبع شاة ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي النعامة بعير وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ، وإن لم يكن له نظير مما في ذبحه قربة كالحمام ، والعصفور ، وسائر الطيور تعتبر قيمته كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ، وحكى الكرخي قول محمد : إن الخيار للقاتل عنده أيضا غير أنه إن اختار الهدي لا يجوز له إلا إخراج النظير فيما له نظير .

                                                                                                                                وعند الشافعي يجب عليه بقتل ما له نظير النظير ابتداء من غير اختيار أحد ، وله أن يطعم ، ويكون الإطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد ، فيقع الكلام في موجب قتل صيد له نظير في مواضع منها : أنه يجب على القاتل قيمته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، ولا يجب عند محمد والشافعي .

                                                                                                                                والأصل فيه قوله عز وجل { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي : فعليه جزاء مثل ما قتل ، أوجب الله تعالى على القاتل جزاء مثل ما قتل ، واختلف الفقهاء في المراد من المثل المذكور في الآية الشريفة ، قال أبو حنيفة وأبو يوسف : " المراد منه المثل من حيث المعنى وهو القيمة " وقال محمد والشافعي : " المراد منه المثل من حيث الصورة والهيئة " وجه قولهما : أن الله تعالى أوجب على القاتل جزاء من النعم ، وهو مثل ما قتل من النعم ; لأنه ذكر المثل ثم فسره بالنعم بقوله عز وجل من النعم ، ومن ههنا لتمييز الجنس ، فصار تقدير الآية الشريفة : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء من النعم ، وهو مثل المقتول ، وهو أن يكون مثله في الخلقة والصورة .

                                                                                                                                وروي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر رضي الله عنه أوجبوا في النعامة بدنة ، وفي الظبية شاة ، وفي الأرنب عناقا ، ، وهم كانوا أعرف بمعاني كتاب الله تعالى ، ولأبي حنيفة ، وأبي يوسف وجوه من الاستدلال بهذه الآية أولها : أن الله عز وجل نهى المحرمين عن قتل الصيد عاما ; لأنه تعالى [ ص: 199 ] ذكر الصيد بالألف واللام بقوله عز وجل : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، } والألف واللام لاستغراق الجنس خصوصا عند عدم المعهود ، ثم قال تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل } والهاء كناية راجعة إلى الصيد الموجد من اللفظ المعرف فاللام التعريف ، فقد أوجب سبحانه وتعالى بقتل الصيد مثلا يعم ما له نظير وما لا نظير له ، وذلك هو المثل من حيث المعنى ، وهو القيمة لا المثل من حيث الخلقة والصورة ; لأن ذلك لا يجب في صيد لا نظير له ، بل الواجب فيه المثل من حيث المعنى وهو القيمة بلا خلاف ، فكان صرف المثل المذكور بقتل الصيد على العموم إليه تخصيصا لبعض ما تناوله عموم الآية ، والعمل بعموم اللفظ واجب ما أمكن ، ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل ، والثاني أن مطلق اسم المثل ينصرف إلى ما عرف مثلا في أصول الشرع ، والمثل المتعارف في أصول الشرع ، هو المثل من حيث الصورة والمعنى ، أو من حيث المعنى وهو القيمة كما في ضمان المتلفات ، فإن من أتلف على آخر حنطة يلزمه حنطة .

                                                                                                                                ومن أتلف عليه عرضا تلزمه القيمة .

                                                                                                                                فأما المثل من حيث الصورة والهيئة فلا نظير له في أصول الشرع ، فعند الإطلاق ينصرف إلى المتعارف لا إلى غيره ، والثالث : أنه سبحانه وتعالى ذكر المثل منكرا في موضع الإثبات فيتناول واحدا ، وأنه اسم مشترك يقع على المثل من حيث المعنى ، ويقع على المثل من حيث الصورة ، فالمثل من حيث المعنى يراد من الآية فيما لا نظير له ، فلا يكون الآخر مرادا إذ المشترك في موضع الإثبات لا عموم له ، والرابع : أن الله تعالى ذكر عدالة الحكمين ، ومعلوم أن العدالة إنما تشترط فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل ، وذلك في المثل من حيث المعنى وهو القيمة ; لأن بها تتحقق الصيانة عن الغلو والتقصير ، وتقرير الأمر على الوسط .

                                                                                                                                فأما الصورة فمشابهة لا تفتقر إلى العدالة .

                                                                                                                                وأما قوله تعالى { من النعم } فلا نسلم أن قوله تعالى { من النعم } خرج تفسيرا للمثل ، وبيانه من وجهين أحدهما : أن قوله { فجزاء مثل ما قتل } كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصله بغيره لكونه مبتدأ وخبرا ، وقوله { من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة } يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل ; لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدي الذي يوجد بذلك القدر من القيمة ، فلا يجعل قوله : { مثل ما قتل } مربوطا بقوله عز وجل { من النعم } مع استغناء الكلام عنه .

                                                                                                                                هذا هو الأصل إلا إذا قام دليل زائد يوجب الربط بغيره ، والثاني : أنه وصل قوله { من النعم } بقوله { يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة } ، وقوله عز وجل { أو كفارة طعام مساكين } ، وقوله عز وجل { أو عدل ذلك صياما } جعل الجزاء أحد الأشياء الثلاثة ; لأنه أدخل حرف التخيير بين الهدي والإطعام ، وبين الطعام والصيام فلو كان قوله { من النعم } تفسيرا للمثل ، لكان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما ، وبين النعم إذ لا فرق بين التقديم والتأخير في الذكر ، بأن قال تعالى : فجزاء مثل ما قتل طعاما ، أو صياما أو من النعم هديا ; لأن التقديم في التلاوة ، لا يوجب التقديم في المعنى ، ولما لم يكن الطعام والصيام مثلا للمقتول دل أن ذكر النعم لم يخرج مخرج التفسير للمثل ، بل هو كلام مبتدأ غير موصول المراد بالأول ، وقول جماعة الصحابة رضي الله عنهم محمول على الإيجاب من حيث القيمة توفيقا بين الدلائل مع ما ، إن المسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن ابن عباس مثل مذهب أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، فلا يحتج بقول البعض على البعض ، وعلى هذا ينبني اعتبار مكان الإصابة في التقويم عندهما ; لأن الواجب على القاتل القيمة وأنها تختلف باختلاف المكان .

                                                                                                                                وعند محمد ، والشافعي الواجب : هو النظير إما بحكم الحكمين أو ابتداء ، فلا يعتبر فيه المكان .

                                                                                                                                وقال الشافعي : " يقوم بمكة أو بمنى وإنه غير سديد ; لأن العبرة في قيم المستهلكات في أصول الشرع مواضع الاستهلاك ، كما في استهلاك سائر الأموال ومنها أن الطعام بدل عن الصيد عندنا ، فيقوم الصيد بالدراهم ويشتري بالدراهم طعاما ، وهو مذهب ابن عباس وجماعة من التابعين ، وعن ابن عباس رواية أخرى : أن الطعام بدل عن الهدي فيقوم الهدي بالدراهم ، ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما ، وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                والصحيح قولنا ; لأن الله تعالى جعل جميع ذلك جزاء الصيد بقوله عز وجل : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } إلى قوله { أو كفارة طعام مساكين } فلما كان الهدي من حيث كونه جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو نظيره على اختلاف القولين ، كان الطعام مثله ; ولأن فيما لا مثل له من النعم اعتبار الطعام بقيمة الصيد [ ص: 200 ] بلا خلاف ، فكذا فيما له مثل ; لأن الآية عامة منتظمة للأمرين جميعا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية