الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      كتاب الحيض

                                      [ ص: 378 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 378 ] قال الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } . قال أهل اللغة : يقال حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا ومحاضا فهي حائض بحذف الهاء ; لأنه صفة للمؤنث خاصة فلا يحتاج إلى علامة تأنيث ، بخلاف قائمة ومسلمة ، هذه اللغة الفصيحة المشهورة . وحكى الجوهري عن الفراء : أنه يقال أيضا : حائضة ، وأنشد :

                                      كحائضة يزني بها غير طاهر

                                      قال الهروي : يقال حاضت وتحيضت ودرست بفتح الدال والراء والسين المهملة وعركت بفتح العين وكسر الراء وطمثت بفتح الطاء وكسر الميم ، وزاد غيره ونفست وأعصرت وأكبرت وضحكت ، كله بمعنى حاضت .

                                      قال صاحب الحاوي : للحيض ستة أسماء وردت اللغة بها أشهرها الحيض ، والثاني الطمث والمرأة طامث . قال الفراء : الطمث الدم ولذلك قيل : إذا افتض البكر طمثها أي أدماها قال الله تعالى { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } . الثالث العراك والمرأة عارك والنساء عوارك . الرابع الضحك والمرأة ضاحك . قال الشاعر :

                                      وضحك الأرانب فوق الصفا كمثل دم الجوف يوم اللقا

                                      والخامس : الإكبار ، والمرأة مكبر ، قال الشاعر :

                                      يأتي النساء على أطهارهن ولا يأتي النساء إذ أكبرن إكبارا

                                      [ ص: 379 ] والسادس : الإعصار ، والمرأة معصر ، قال الشاعر :

                                      جارية قد أعصرت أو قد دنا إعصارها

                                      قال أهل اللغة : وأصل الحيض السيلان ، يقال : حاض الوادي أي سال يسمى حيضا لسيلانه في أوقاته ، قال الأزهري : والحيض دم يرخيه رحم المرأة ، بعد بلوغها في أوقات معتادة والاستحاضة : سيلان الدم في غير أوقاته المعتادة ، ودم الحيض يخرج من قعر الرحم ويكون أسود محتدما ، أي حارا ، كأنه محترق قال : والاستحاضة دم يسيل من العاذل ، وهو عرق فمه الذي يسيل في أدنى الرحم ، دون قعره ، قال : وذكر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما هذا كلام الأزهري والعاذل : بالعين المهملة ، وكسر الذال المعجمة . قال الهروي في الغريبين وغيره من أهل اللغة : الحيض دم يخرج في أوقاته بعد بلوغها ، والاستحاضة دم يخرج في غير أوقاته ، قال صاحب الحاوي : أما المحيض في قول الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض } فهو دم الحيض بإجماع العلماء .

                                      وأما المحيض في قوله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } فقيل : إنه دم الحيض وقيل : زمانه وقيل : مكانه وهو الفرج ، قال : وهذا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور المفسرين . وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب المحاملي وآخرون : مذهبنا أن المحيض هو الدم وهو الحيض وقال قوم : هو الفرج وهو اسم للموضع كالمبيت ، والمقيل موضع البيتوتة والقيلولة ، وقال قوم : زمان الحيض قال : وهما قولان ضعيفان . قال صاحب الحاوي : وسمي الحيض أذى لقبح لونه ورائحته ونجاسته وأضراره .

                                      قال الجاحظ في كتاب الحيوان والذي يحيض من الحيوان أربع : المرأة والأرنب والضبع والخفاش وحيض الأرنب والضبع مشهور في أشعار العرب . [ ص: 380 ]

                                      ( فرع ) ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحيض : { هذا شيء كتبه الله على بنات آدم } . قال البخاري في صحيحه قال بعضهم : أول ما أرسل الحيض على بني إسرائيل قال البخاري : وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر ، يعني أنه عام في جميع بنات آدم .

                                      ( فرع ) يجوز أن يقال : حاضت المرأة وطمثت ونفست بفتح النون وكسر الفاء وعركت ، ولا كراهة في شيء من ذلك ، وروينا في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه كره أن يقال : طمثت ، دليلنا أن هذا شائع في اللغة والاستعمال ، فلا تثبت كراهته إلا بدليل صحيح . وأما ما رويناه في سنن البيهقي عن زيد بن باينوس قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : " ما تقولين في العراك " ؟ قالت : الحيض تعنون ؟ قلنا : نعم قالت : سموه كما سماه الله تعالى " فمعناه والله أعلم أنهم قالوا : العراك ولم يقولوا الحيض تأدبا واستحياء من مخاطبتها باسمه الصريح الشائع ، وهو مما يستحيي النساء منه ومن ذكره ، فقالت : لا تتكلفوا معي هذا وخاطبوني باسمه الذي سماه الله تعالى ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) اعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب ، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله ، واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة . وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها ، وأتى فيه بنفائس لم يسبق إليها ، وحقق أشياء مهمة من أحكامها ، وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس ، وسأذكر في هذا الشرح ما يليق به منها إن شاء الله تعالى وجمع إمام الحرمين في النهاية في باب الحيض نحو نصف مجلد ، وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة : لا ينبغي للناظر في أحكام الاستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب . وبسط أصحابنا رحمهم الله مسائل الحيض أبلغ بسط ، وأوضحوه أكمل إيضاح ، واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء ، وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة وتكرير الأحكام ، وكنت جمعت في الحيض [ ص: 381 ] في شرح المهذب مجلدا كبيرا مشتملا على نفائس ، ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده ، ومقصودي بما نبهت عليه : ألا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن شاء الله تعالى على ألا أطيله إلا بمهمات ، وقواعد مطلوبات ، وما ينشرح به قلب من له طاب مليح ، وقصد صحيح ، ولا التفات إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة ، فإن مسائل الحيض يكثر الاحتياج إليها لعموم وقوعها . وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه ، لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض ، ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة ، ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام كالطهارة والصلاة والقراءة والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والخلع والإيلاء وكفارة القتل وغيرها والعدة والاستبراء وغير ذلك من الأحكام ، فيجب الاعتناء بما هذه حاله .

                                      قد قال الدارمي في كتاب المتحيرة : ( الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب ) وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا الشرح يقوم بحقه أكمل قيام ، وأنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصا أو استنباطا ، لكن قد يخفى موضعها على من لا تكمل مطالعته وبالله التوفيق .

                                      ( فرع ) قال صاحب الحاوي : النساء أربعة أضرب طاهر ، وحائض ، ومستحاضة ، وذات دم فاسد . فالطاهر : ذات النقاء ، والحائض : من ترى دم الحيض في زمنه بشرطه ، والمستحاضة : من ترى الدم على أثر الحيض على صفة لا يكون حيضا ، وذات الفساد : من يبتديها دم لا يكون حيضا .

                                      هذا كلام صاحب الحاوي وقال أيضا قبله : قال الشافعي : لو رأت الدم قبل استكمال تسع سنين ، فهو دم فاسد ، ولا يقال له : استحاضة ; لأن الاستحاضة لا تكون إلا على أثر حيض ، ثم قال في فصل المميزة لو رأت خمسة عشر يوما [ ص: 382 ] دما أسود ثم رأت أحمر ، فالأسود حيض وفي الأحمر وجهان قال أبو إسحاق : هو استحاضة . وقال ابن سريج : هو دم فساد لا استحاضة ; لأن الاستحاضة ما دخل على أثر الحيض في زمانه ثم جاوز خمسة عشر . ، فهذا كلام صاحب الحاوي ، وحاصله : أن الاستحاضة لا تطلق إلا على دم متصل بالحيض ، وليس بحيض ، وأما ما لا يتصل بحيض فدم فساد ، ولا يسمى استحاضة .

                                      وقد وافقه عليه جماعة . وقال الأكثرون : يسمى الجميع استحاضة ، قالوا : والاستحاضة نوعان . نوع : يتصل بدم الحيض وقد سبق بيانه ، ونوع : لا يتصل به كصغيرة لم تبلغ تسع سنين رأت الدم وكبيرة رأته وانقطع لدون يوم وليلة ، فحكمه حكم الحدث ، هكذا صرح بهذين النوعين أبو عبد الله الزبيري والقاضي حسين والمتولي والبغوي والسرخسي في الأمالي وصاحب العدة وآخرون ، وهو الأصح الموافق لما سبق عن الأزهري وغيره من أهل اللغة : أن الاستحاضة دم يجري في غير أوانه ، وقد استعمل المصنف هذا في المهذب فقال في فصل النفاس : وإن رأت قبل الولادة خمسة أيام - إلى قوله - من أصحابنا من قال : هو استحاضة ، واستعمله في التنبيه في قوله : وفي الدم الذي تراه الحامل قولان ، أصحهما : أنه حيض ، والثاني : استحاضة ، واستعمله أيضا الجرجاني وآخرون والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية