الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 3055 ] (سورة الأنفال)

                                                          تمهيد

                                                          هذه السورة مدنية، وقالوا: إن سبع آيات منها مكية، وعباراتها السامية تنبئ عن أنها مكية، وهي تبتدئ من قوله تعالى: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين فإن هذه الآيات السبع مكية، تدل عليها عباراتها وزمانها، ولكن لأنها متصلة بالهجرة أضيفت إلى سورة مدنية.

                                                          والأنفال سميت بأولها، وهو يسألونك عن الأنفال فسميت بهذا الاسم، وإن هذه السورة تشتمل على أعمال من أجل ما قام في الإسلام، ففيها كان يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وبهذا اللقاء كان الفرق بين عزة الحق وذلة الباطل، وفيها تشريع الأنفال والغنائم، وفيها حكم الأسرى، ومتى يكون الأسر، وفيها إعداد العدة، وفيها الوفاء بالعهد ومتى ينقض.

                                                          وقد ابتدئت السورة بذكر الأنفال، وما يؤخذ من الحرب، وبين الله تعالى أنها في الأصل لله تعالى ورسوله؛ ليقوي بها الجيش، ويتخذ منها العدة والأهبة، وكان ذلك إيذانا بما يجيء بعد ذلك من يوم الفرقان.

                                                          ابتدئت السورة بالإشارة إلى ما كان من تساؤل حول الأنفال، ثم تكلمت بعد ذلك عن الاستعداد للالتقاء يوم الفرقان.

                                                          وكانت أول العدة طاعة الله ورسوله، وامتلاء القلوب بهيبة الله، وبيان أن المؤمنين المجاهدين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتوكلون على ربهم إذا أعدوا العدة، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وإن ذكر الماضي وإرادة تغييره يكون [ ص: 3056 ] بالعمل والجهاد، وإنه يجب الصبر على فراق الأحبة، ومنع المجادلة في الحق، قال تعالى: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون

                                                          ثم يملأ الله تعالى قلوب المؤمنين إيمانا وهو من عدة النصر وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون

                                                          ويبين من بعد ذلك الالتجاء إلى الله واستغاثته ، فاستجاب بإمداد الملائكة الروحي الذي جعله الله تعالى بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.

                                                          ورزقهم الله الأمان فناموا، والنوم آمنين قوة، وأنزل الله تعالى من السماء ماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجس الشيطان، ويوحي رب العالمين إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا فيثبتوهم، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وصار المؤمنون على استعداد للقتال يضربون فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان; لأنهم عاندوا الله ورسوله وساقوه فليذوقوا ذلك البأس ومن بعد النار.

                                                          ثم يكون التحريض على القتال والثبات ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير

                                                          وإنه بعد انتهاء المعركة التي كانت فيصل الحق بين قوة الإيمان والكفر - بين الله أن ذلك كان بفضل الله للمؤمنين، وأنه هو الذي رد كيد الكافرين، ووهن تدبيرهم، وأنه سبحانه هو الذي جاء بالفتح وأمر من عنده، وأنه مع إرادة الله تعالى للنصر لن تغني عنهم فئتهم من الله سبحانه، وإن ذلك من طاعة المؤمنين لله وسماعهم لأوامره، وأنهم لا يقولون: سمعنا وعصينا.

                                                          وقد بين الله بعد ذلك أن شر الدواب الذين آتاهم الله عقولا، فأصموا آذانهم عن الحق، وتردوا في الباطل ترديا، وليعلموا أن الله هو المسيطر على القلوب [ ص: 3057 ] به يهتدون، ويتركهم إن ساروا في طريق الغواية فيضلون، وبين أن الفتن إن جاءت تعم ولا تخص، وأن أشد الفتن أن يخونوا الله ورسوله ويخونوا أماناتهم، وأن التقوى حصن القلوب، وهي فرقان ما بين الحق والباطل، وبها يفرق بينهما.

                                                          ويذكر الله تعالى بعد ذلك ما كان في آخر إقامتهم بمكة إذ يدبرون لمحمد حبسه أو قتله أو يخرجوه، ويمكرون والله سبحانه يدبر له أمر هجرته ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين

                                                          ويذكر بعض ما كان المشركون ينالون بالباطل من القرآن، وما تلج به عداوتهم، فيقولون مستهينين بالحق الذي يدعوهم الله تعالى إليه: وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وذلك أبلغ التحدي والاستهانة بالحق، فبدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه يقولون متحدين: فأمطر علينا حجارة من السماء ولكن الله تعالى ما كان ليعذبهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم قائم بدعوته.

                                                          ثم يفرق الله تعالى بين المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله والكافرين الذين ينفقون ليصدوا عن سبيله، وأن مآلهم جهنم، ويفتح الله تعالى لهم باب الرجاء والمغفرة إن ينتهوا، وإن نهاية القتال هو انتهاء الفتنة في الدين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير

                                                          في هذه السورة من أولها إلى هذه الآية بيان القتال، وأن النصرة فيه بالتأييد من الله العزيز الحكيم والإيمان الصادق المستجلب لهذا التأييد، فهو قوة المسلمين، وضعف المشركين من كفرهم، وأنهم ينفقون ليصدوا عن سبيل الله تعالى.

                                                          بعد ذلك يتكلم الله تعالى في توزيع الغنائم، فيقول: واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير

                                                          [ ص: 3058 ] ويبين الله مواقع القتال يوم بدر الذي انتهى بالنصر المؤزر، وإذ يربي الله تعالى قوة روح المؤمنين برؤية الأعداء في المنام قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم وإنه في رؤية العيان تستقلونهم لتتقدموا، ويستقلونكم لأنكم فعلا قلة، وذلك ليقضي الله أمرا كان مفعولا

                                                          ويدعو الله تعالى إلى الثبات مكررا له; لأن الثبات في الصدمة الأولى هو قوة الصبر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى ".

                                                          ويدعو مع الثبات إلى ذكر الله تعالى; لأنه عدة الأتقياء، وينهى عن التنازع حتى لا تذهب القوة، ولا يكن خروجكم بطرا بالمعيشة ورجاء الترف أو رئاء الناس؛ فإن هذه هي مفاسد الجهاد، ولا يصح أن يزين الشيطان لكم ويركبكم ويقول لكم: لا غالب لكم اليوم من الناس وإذا التقى الجمعان قال: إني بريء منكم.

                                                          وعندئذ يجد المنافقون سبيلا إلى جموعكم، ويقولون: غر هؤلاء دينهم فاطرحوا الشيطان وغروره، وتوكلوا على الله، وإن الملائكة يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم عند موتهم، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بآل فرعون إذ أخذهم الله بذنوبهم، وإذ كذبوا، وإن الله تعالى: لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

                                                          ومن بعد ذلك يعود إلى الجهاد، والوقوف أمام الأشرار وحربهم، والاستعانة بالعهد لمن يقدم عهدا إن وفوا وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء وإنه يجب أن يكون المؤمنون على حذر واستعداد وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون وأنه مع وجوب الاستعداد والإعداد وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله

                                                          [ ص: 3059 ] ولا تنس التحريض على القتال، فيتجمع العهد مع الوفاء، والاستعداد للسلم وللحرب معا، ولا بد مع ذلك من تأليف قلوب المؤمنين، فإنه أقوى أسباب النصر، وإن القوة المعنوية مع ائتلاف القلوب تضاهي الألوف إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا وإن أدخل فيكم ضعف بوجود المنافقين فيكم وضعاف الإيمان فإنه فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين

                                                          وقد بين الله بعد ذلك وقت الأسر، وهو بعد الإثخان في الأرض، وعتب الله على نبيه والمؤمنين أن كان لهم أسرى وأخذوا فدية، فقال: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم هذا إذا أرادوا، وإن يريدوا خيانة الرسول فقد خانوا الله من قبل.

                                                          وبعد ذلك بين الله تعالى ولاء المؤمنين فقال تعالى: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير

                                                          وقد بين سبحانه أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فلا تربطنا بهم ولاية، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.

                                                          وقد ذكر سبحانه بعد ذلك والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم

                                                          هذه إشارات إلى ما اشتملت عليها سورة الأنفال ، ولولا أنها سميت بذلك لقلنا إنها سورة من سور الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية