الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم

الأظهر أن الفاء فصيحة ناشئة عن جملة " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم " تفصح عن مقدر قبلها شرط أو غيره ، والأكثر أن يكون شرطا فتكون رابطة لجوابه ، والتقدير هنا إذا علمتم أن الله أوحى إلى الملائكة بضرب أعناق المشركين وقطع أيديهم فلم تقتلوهم أنتم ولكن الله قتلهم أي فقد تبين أنكم لم تقتلوهم أنتم ، وإلى هذا يشير كلام صاحب الكشاف هنا وتبعه صاحب المفتاح في آخر باب النهي .

ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على جملة " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار " أي يتفرع على النهي عن أن تولوا المشركين الأدبار تنبيهكم إلى أن الله هو الذي دفع المشركين عنكم وأنتم أقل منهم عددا وعدة ، والتفريع بالفاء تفريع العلة على المعلول ، فإن كون قتل المشركين ورميهم حاصلا من الله لأمن المسلمين يفيد تعليلا وتوجيها لنهيهم عن أن يولوهم الأدبار ، ولأمرهم الصبر والثبات وهو تعريض بضمان تأييد الله إياهم إن امتثلوا لقوله " واصبروا إن الله مع الصابرين " فإنهم إذا امتثلوا ما أمرهم الله كان الله ناصرهم ، وذلك يؤكد الوعيد على تولية الأدبار لأنه يقطع عذر المتولين والفارين ، ولذلك قال الله - تعالى - في وقعة أحد إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا .

وإذ قد تضمنت الجملة إخبارا عن حالة أفعال فعلها المخاطبون ، كان المقصود إعلامهم بنفي ما يظنونه من أن حصول قتل المشركين يوم بدر كان بأسباب ضرب سيوف المسلمين ، فأنبأهم أن تلك السيوف ما كان يحق لها أن تؤثر ذلك التأثير المصيب المطرد العام الذي حل بأبطال ذوي شجاعة ، وذوي شوكة وشكة ، وإنما كان ضرب سيوف المسلمين صوريا ، أكرم الله المسلمين بمقارنته فعل الله - تعالى - الخارق للعادة ، فالمنفي هو الضرب الكائن سبب القتل في العادة ، وبذلك كان القتل الحاصل يومئذ معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وكرامة لأصحابه ، وليس المنفي تأثير الضرب [ ص: 294 ] في نفس الأمر بناء على القضاء والقدر ، لأنه لو كان ذلك لم يكن للقتل الحاصل يوم بدر مزية على أي قتل يقع بالحق أو بالباطل ، في جاهلية أو إسلام ، وذلك سياق الآية الذي هو تكريم المسلمين وتعليل نهيهم عن الفرار إذا لقوا .

وليس السياق لتعليم العقيدة الحق .

وأصل الخبر المنفي أن يدل على انتفاء صدور المسند عن المسند إليه ، لا أن يدل على انتفاء وقوع المسند أصلا فلذلك صح النفي في قوله " فلم تقتلوهم " مع كون القتل حاصلا ، وإنما المنفي كونه صادرا عن أسبابهم .

ووجه الاستدراك المفاد ب " لكن " أن الخبر نفى أن يكون القتل الواقع صادرا عن المخاطبين فكان السامع بحيث يتطلب أكان القتل حقيقة أم هو دون القتل ، ومن كان فاعلا له ، فاحتيج إلى الاستدراك بقوله " ولكن الله قتلهم " .

وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله " ولكن الله قتلهم " دون أن يقال ولكن قتلهم الله ، لمجرد الاهتمام لا الاختصاص ، لأن نفي اعتقاد المخاطبين أنهم القاتلون قد حصل من جملة النفي ، فصار المخاطبون متطلبين لمعرفة فاعل قتل المشركين فكان مهما عندهم تعجيل العلم به .

التالي السابق


الخدمات العلمية