الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما الصبر عن المحرمات فواجب وإن كانت النفس تشتهيها وتهواها . قال تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله } و " الاستعفاف " هو ترك المنهي عنه . كما في الحديث [ ص: 575 ] الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر } .

                " فالمستغني " لا يستشرف بقلبه و " المستعف " هو الذي لا يسأل الناس بلسانه و " المتصبر " هو الذي لا يتكلف الصبر . فأخبر أنه من يتصبر يصبره الله . وهذا كأنه في سياق الصبر على الفاقة بأن يصبر على مرارة الحاجة لا يجزع مما ابتلي به من الفقر وهو الصبر في البأساء والضراء . قال تعالى : { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } .

                و " الضراء " المرض . وهو الصبر على ما ابتلي به من حاجة ومرض وخوف . والصبر على ما ابتلي به باختياره كالجهاد ; فإن الصبر عليه أفضل من الصبر على المرض الذي يبتلى به بغير اختياره ; ولذلك إذا ابتلي بالعنت في الجهاد فالصبر على ذلك أفضل من الصبر عليه في بلده ; لأن هذا الصبر من تمام الجهاد . وكذلك لو ابتلي في الجهاد بفاقة أو مرض حصل بسببه كان الصبر عليه أفضل . كما قد بسط هذا في مواضع .

                وكذلك ما يؤذى الإنسان به في فعله للطاعات كالصلاة والأمر بالمعروف [ ص: 576 ] والنهي عن المنكر وطلب العلم من المصائب فصبره عليها أفضل من صبره على ما ابتلي به بدون ذلك وكذلك إذا دعته نفسه إلى محرمات : من رئاسة وأخذ مال وفعل فاحشة كان صبره عنه أفضل من صبره على ما هو دون ذلك ; فإن أعمال البر كلما عظمت كان الصبر عليها أعظم مما دونها . فإن في " العلم " و " الإمارة " و " الجهاد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " و " الصلاة " و " الحج " و " الصوم " و " الزكاة " من الفتن النفسية وغيرها ما ليس في غيرها . ويعرض في ذلك ميل النفس إلى الرئاسة والمال والصور . فإذا كانت النفس غير قادرة على ذلك لم تطمع فيه كما تطمع مع القدرة ; فإنها مع القدرة تطلب تلك الأمور المحرمة ; بخلاف حالها بدون القدرة فإن الصبر مع القدرة جهاد ; بل هو من أفضل الجهاد . وأكمل من ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : أن الصبر عن المحرمات أفضل من الصبر على المصائب .

                ( الثاني ) : أن ترك المحرمات مع القدرة عليها وطلب النفس لها أفضل من تركها بدون ذلك . ( الثالث ) : أن طلب النفس لها إذا كان بسبب أمر ديني - كمن [ ص: 577 ] خرج لصلاة أو طلب علم أو جهاد فابتلي بما يميل إليه من ذلك فإن صبره عن ذلك - يتضمن فعل المأمور وترك المحظور ; بخلاف ما إذا مالت نفسه إلى ذلك بدون عمل صالح ; ولهذا كان يونس بن عبيد يوصي بثلاث يقول : لا تدخل على سلطان ، وإن قلت : آمره بطاعة الله . ولا تدخل على امرأة ; وإن قلت : أعلمها كتاب الله . ولا تصغ أذنك إلى صاحب بدعة وإن قلت : أرد عليه . فأمره بالاحتراز من " أسباب الفتنة " فإن الإنسان إذا تعرض لذلك فقد يفتتن ولا يسلم . فإذا قدر أنه ابتلي بذلك بغير اختياره أو دخل فيه باختياره وابتلي فعليه أن يتقي الله ، ويصبر ويخلص ويجاهد . وصبره على ذلك وسلامته مع قيامه بالواجب من أفضل الأعمال كمن تولى ولاية وعدل فيها أو رد على أصحاب البدع بالسنة المحضة ولم يفتنوه ، أو علم النساء الدين على الوجه المشروع من غير فتنة . لكن الله إذا ابتلى العبد وقدر عليه أعانه ، وإذا تعرض العبد بنفسه إلى البلاء وكله الله إلى نفسه .

                كما { قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة : لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها } وكذلك [ ص: 578 ] { قال في الطاعون : إذا وقع ببلد وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه } فمن فعل ما أمره الله به فعرضت له فتنة من غير اختياره فإن الله يعينه عليها بخلاف من تعرض لها . لكن باب التوبة مفتوح ; فإن الرجل قد يسأل الإمارة فيوكل إليها ثم يندم فيتوب من سؤاله فيتوب الله عليه ويعينه ; إما على إقامة الواجب وإما على الخلاص منها ; وكذلك سائر الفتن . كما قال : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } وهذه الأمور تحتاج إلى بسط لا يتسع له هذا الموضع .

                و ( المقصود ) أن الله سبحانه يريد أن يبين لنا ويهدينا سنن الذين من قبلنا الذين قال فيهم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وهم الذين أمرنا أن نسأله الهداية لسبيلهم في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم } فهو يحب لنا ويأمرنا أن نتبع صراط هؤلاء وهو سبيل من أناب إليه فذكر هنا ثلاثة أمور : البيان والهداية والتوبة . وقيل : المراد بالسنن هنا سنن أهل الحق والباطل . أي : يريد أن يبين لنا سنن هؤلاء وهؤلاء فيهدي عباده المؤمنين إلى الحق [ ص: 579 ] ويضل آخرين فإن الهدى والضلال إنما يكون بعد البيان .

                كما قال : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم } وقال : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } فتكون ( سنن ) متعلقا بيبين يعني : سنن أهل الباطل لا بيهدي ، وأهل الحق متعلق بقوله : ويهديكم . وقال الزجاج : السنن الطرق فالمعنى يدلكم على طاعته كما دل الأنبياء وتابعيهم وهذا أولى ; لأنه قد يقدم فعلين فلا يجعل الأول هو العامل وحده ; بل العامل إما الثاني وحده وإما الاثنان كقوله : { آتوني أفرغ عليه قطرا } أو إذا أريد هذا التقدير : يبين لكم سنن الذين من قبلكم ويهديكم سننا . فدل على أنه يهدينا سننهم .

                والمراد بذلك سنن أهل الحق بخلاف قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } فإنه قال بعدها : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنه أراد تعريف عقوبة الظالمين بالعيان وهنا فأنزل علينا من القرآن ما يهدينا به سنن الذين من قبلنا وهم الذين أنعم الله عليهم . وذكر ثلاثة أمور : " التبيين " و " الهدى " و " التوبة " ; لأن الإنسان أولا يحتاج إلى معرفة الخير والشر وما أمر به وما نهي عنه ثم يحتاج بعد ذلك [ ص: 580 ] إلى أن يهدى فيقصد الحق ويعمل به دون الباطل . وهو سنن الأنبياء والصالحين . ثم لا بد له بعد ذلك من الذنوب فيريد أن يتطهر منها بالتوبة فهو محتاج إلى العلم والعمل به وإلى التوبة مع ذلك فلا بد له من التقصير أو الغفلة في سلوك تلك السنن التي هداه الله إليها فيتوب منها بما وقع من تفريط في كل سنة من تلك السنن وهذه " السنن " تدخل فيها الواجبات والمستحبات فلا بد للسالك فيها من تقصير وغفلة فيستغفر الله ويتوب إليه . فإن العبد لو اجتهد مهما اجتهد لا يستطيع أن يقوم لله بالحق الذي أوجبه عليه فما يسعه إلا الاستغفار والتوبة عقيب كل طاعة .

                وقد يقال : " الهداية " هنا البيان والتعريف أي : يعرفكم سنن الذين من قبلكم من أهل السعادة والشقاوة لتتبعوا هذه وتجتنبوا هذه كما قال تعالى : { وهديناه النجدين } قال علي وابن مسعود : سبيل الخير ، والشر . وعن ابن عباس : سبيل الهدى والضلال . وقال مجاهد : سبيل السعادة والشقاوة : أي فطرناه على ذلك وعرفناه إياه ، والجميع واحد . والنجدان الطريقان الواضحان والنجد المرتفع من الأرض فالمعنى ألم نعرفه طريق الخير والشر ونبينه له كتبيين الطريقين العاليين ; لكن الهدى والتبيين والتعريف في هذه الآية يشترك [ ص: 581 ] فيه بنو آدم ويعرفونه بعقولهم .

                وأما طريق من تقدم من الأنبياء فلا بد من إخبار الله تعالى عنها كما قال : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } لكن يجاب عن هذا بأنه لو أريد هذا المعنى لقال يريد الله ليبين لكم سنن الذين من قبلكم ولم يحتج أن يذكر الهدى إذا كان المعنى واحدا فلما ذكر أنه يريد التبيين والهدى علم أن هذا غير هذا فا " لتبيين " التعريف والتعليم و " الهدى " هو الأمر والنهي وهو الدعاء إلى الخير . كما قال تعالى : { ولكل قوم هاد } أي داع يدعوهم إلى الخير . كما قال تعالى : { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } أي تدعوهم إليه دعاء تعليم . وهداه هنا [ يتعدى ] بنفسه ; لأن التقدير : ويلزمكم سنن الذين من قبلكم فلا تعدلوا عنها وليس المراد هنا بالهدى الإلهام .

                كما في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } لكونه لو أراد ذلك لوقع ; ولم يكن فينا ضال ; بل هذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا ولهذا قال الزجاج : يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم فعلق الإرادة بفعل نفسه . فإن الزجاج ظن الإرادة في القرآن ليست إلا كذلك وليس كما ظن ; بل الإرادة المتعلقة بفعله يكون مرادها كذلك فإنه [ ص: 582 ] ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . وأما الإرادة الموجودة في أمره وشرعه فهو كقوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم } الآية . وقوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } ونحو ذلك . فهذه إرادته لما أمر به بمعنى أنه يحبه ويرضاه ويثيب فاعله ; لا بمعنى أنه أراد أن يخلقه فيكون كما قال : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } الآية .

                وكما قال نوح : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون } فهذه إرادة لما يخلقه ويكونه . كما يقول المسلمون : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذه الإرادة متعلقة بكل حادث ، والإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات كما يقول الناس لمن يفعل القبيح : يفعل شيئا ما يريده الله مع قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . فإن هذه الإرادة " نوعان " . كما قد بسط في موضع آخر . وقد يراد بالهدى الإلهام ويكون الخطاب للمؤمنين المطيعين الذين [ ص: 583 ] هداهم الله إلى طاعته فإن الله تعالى أراد أن يتوب عليهم ويهديهم فاهتدوا ولولا إرادته لهم ذلك لم يهتدوا كما قالوا : { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق } .

                لكن الخطاب في الآية لجميع المسلمين كالخطاب بآية الوضوء . والخطاب لأهل البيت بقوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } ولهذا يهدد من لم يطعه . وكما في الصيام : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } .

                فهذه إرادة شرعية أمرية بمعنى المحبة والرضا ; لا إرادة الخلق المستلزمة للمراد ; لأنه لو كان كذلك لم تكن الآية خطابا إلا لمن أخذ باليسر ولمن فعل ما أمر به وكان من تخلف عن ذلك لا يدخل تحت الأمر والنهي الذي في الآية وليس كذلك . بل الحكم الشرعي لازم لجميع المسلمين ; فمن أطاع أثيب ومن عصى عوقب والذين أطاعوه إنما أطاعوه بهداه لهم : هدى الإلهام والإعانة بأن جعلهم مهتدين . كما أنه هو الذي جعل المصلي مصليا والمسلم مسلما . ولو كانت الإرادة هنا من الإنسان مستلزمة لوقوع المراد لم يقل : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } فإنه حينئذ لا تأثير لإرادة هؤلاء بل وجودها وعدمها سواء .

                كما في قول نوح { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } فإن ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس . والمقصود بالآية تحذيرهم من متابعة الذين يتبعون الشهوات . والمعنى : إني أريد لكم الخير الذي ينفعكم وهؤلاء يريدون لكم الشر الذي يضركم كالشيطان الذي يريد أن يغويكم وأتباعه هم أهل الشهوات فلا تتخذوه وذريته أولياء من دوني بل اسلكوا طرق الهدى والرشاد وإياكم وطرق الغي والفساد . كما قال تعالى : { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } الآيات .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية