الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : يحلفون بالله ما قالوا . الآية . أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن كعب بن مالك قال : لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير . فسمعه عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس، إنك لأحب الناس إلي، [ ص: 444 ] وأحسنهم عندي أثرا، وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك، ولئن سكت عنها لتهلكني، ولإحداهما أشد علي من الأخرى . فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فحلف بالله ما قال، ولقد كذب على عمير . فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقال : لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير . فرفع عمير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلف الجلاس بالله لقد كذب علي، وما قلت . فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الآية، فزعموا أنه تاب وحسنت توبته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل" عن أنس بن مالك قال : سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب : إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير . فقالزيد : هو والله صادق، ولأنت شر من الحمار . فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجحد القائل فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الآية، فكانت الآية في تصديق زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 445 ] وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه . فلم يلبثوا إلا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا؛ أحدهما من جهينة والآخر من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، فظهر الغفاري على الجهني، فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر قال : نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، [ ص: 446 ] عن عروة، أن رجلا من الأنصار يقال له : الجلاس بن سويد . قال ليلة في غزوة تبوك : والله لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير . فسمعه غلام يقال له : عمير بن سعد وكان ربيبه فقال له : أي عم تب إلى الله . وجاء الغلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فجعل يحلف ويقول : والله ما قلته يا رسول الله . فقال الغلام : بلى والله لقد قلته، فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته . فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا فلا يتحرك أحد، وكذلك كانوا يفعلون، لا يتحركون إذا نزل الوحي، فرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر إلى قوله : فإن يتوبوا يك خيرا لهم فقال : قد قلته وقد عرض الله علي التوبة، فأنا أتوب . فقبل ذلك منه، وكان له له قتيل في الإسلام فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه ديته فاستغنى بذلك، وكان هم أن يلحق بالمشركين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام : وفت أذنك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين قال : لما نزل القرآن أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير فقال : وعت أذنك يا غلام وصدقك ربك . [ ص: 447 ] وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ ، عن ابن سيرين قال : قال رجل من المنافقين : لئن كان محمد صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير . فقال له زيد بن أرقم : إن محمدا صادق، ولأنت شر من الحمار . فكان فيما بينهما في ذلك كلام، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأتاه الآخر فحلف بالله ما قال، فنزلت : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن أرقم : وعت أذنك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : قال أحدهم : لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير . فقال رجل من المؤمنين : فوالله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من حمار . فهم بقتله المنافق، فذلك همهم بما لم ينالوا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك في قوله : يحلفون بالله ما قالوا قال : هم الذين أرادوا أن يدفعوا النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانوا قد أجمعوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم معه في بعض أسفاره، فجعلوا يلتمسون غرته، حتى أخذ في عقبة فتقدم بعضهم وتأخر بعضهم، وذلك [ ص: 448 ] ليلا قالوا : إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي . فسمع حذيفة وهو يسوق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان قائده تلك الليلة عمار بن ياسر، وسائقه حذيفة بن اليمان، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، فالتفت فإذا هو بقوم متلثمين فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله . فأمسكوا، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل منزله الذي أراد، فلما أصبح أرسل إليهم كلهم فقال : أردتم كذا وكذا . فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي سألهم عنه، فذلك قوله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : وهموا بما لم ينالوا قال : هم رجل يقال له : الأسود . بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن عروة قال : رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا من تبوك إلى المدينة، حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من أصحابه فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر خبرهم فقال : من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم . وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وأخذ الناس ببطن الوادي، إلا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان [ ص: 449 ] وعمار بن ياسر فمشيا معه مشيا، فأمر عمارا أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة يسوقها، فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع ومعه محجن، فاستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون لا يشعر وإنما ذلك فعل المسافر فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أدركه قال : اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار . فأسرعوا حتى استوى بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة : هل عرفت يا حذيفة من هؤلاء الرهط أو أحدا منهم؟ قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان . وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل علمتم ما كان شأنهم وما أرادوا؟ قالوا : لا والله يا رسول الله . قال : فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها . قالوا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله فتضرب أعناقهم؟ قال : أكره أن يتحدث الناس ويقولوا : إن محمدا وضع يده في أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 450 ] فسماهم لهما وقال : اكتماهم
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن ابن إسحاق نحوه، وزاد بعد قوله لحذيفة : هل عرفت من القوم أحدا؟ فقال : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله عند وجه الصبح . فلما أصبح سماهم له؛ عبد الله بن أبي، وسعد بن أبي سرح، وأبا حاصر الأعرابي، وعامرا وأبا عامر والجلاس بن سويد بن الصامت، ومجمع ابن جارية ومليحا التيمي، وحصين بن نمير، وطعمة [ ص: 451 ] بن أبيرق وعبد الله بن عيينة ومرة بن ربيع، فهم اثنا عشر رجلا، حاربوا الله ورسوله، وأرادوا قتله، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وذلك قوله عز وجل : وهموا بما لم ينالوا وكان أبو عامر رأسهم، وله بنوا مسجد الضرار وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن سعد عن نافع بن جبير بن مطعم قال : لم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين الذين تحسوه ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة وهم اثنا عشر رجلا ليس فيهم قرشي وكلهم من الأنصار أو من حلفائهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي في "الدلائل" عن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوقه، أو أنا أسوقه وعمار يقوده، حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوا فيها . قال : فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عرفتم القوم؟ قلنا : لا يا رسول الله، كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا [ ص: 452 ] الركاب . قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا : لا، قال : أرادوا أن يزحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها . قلنا : يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : لا إني أكره أن تحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم . ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال : شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السدي في قوله : وهموا بما لم ينالوا قال : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي صالح : وهموا بما لم ينالوا قال : هموا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عكرمة ، أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 453 ] بالدية اثني عشر ألفا، وفيه نزلت : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس قال : قتل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ديته اثني عشر ألفا وذلك قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله قال : بأخذهم الدية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله قال : كانت له دية قد غلب عليها، فأخرجها له رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عروة قال : كان جلاس يحمل حمالة، أو كان عليه دين فأدى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك قال : ثم دعاهم إلى التوبة فقال : فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة فأما عذاب الدنيا فالقتل، وأما عذاب الآخرة فالنار .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 454 ] وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن قوما قد هموا بهم سوء وأرادوا أمرا، فليقوموا فليستغفروا . فلم يقم أحد ثلاث مرار، فقال : قم يا فلان قم يا فلان، فقالوا : نستغفر الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأنا دعوتكم إلى التوبة، والله أسرع إليكم بها، وأنا أطيب لكم نفسا بالاستغفار، اخرجوا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية