الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                [ ص: 207 ] فصل ) ويتصل بهذا بيان ما يعم المحرم والحلال جميعا وهو .

                                                                                                                                محظورات الحرم ، فنذكرها فنقول وبالله التوفيق محظورات الحرم نوعان : نوع يرجع إلى الصيد ، ونوع يرجع إلى النبات .

                                                                                                                                أما الذي يرجع إلى الصيد فهو أنه لا يحل قتل صيد الحرم للمحرم والحلال جميعا إلا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا ، وقد بينا ذلك في صيد الإحرام ، والأصل فيه قوله تعالى { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وهذا يتناول صيد الإحرام والحرم جميعا ; لأنه يقال أحرم إذا دخل في الإحرام ، وأحرم إذا دخل في الحرم كما يقال : أنجد إذا دخل نجد ، واتهم إذا دخل تهامة ، وأعرق إذا دخل العراق وأحرم إذا دخل في الشهر الحرام ، ومنه قول الشاعر في عثمان : رضي الله عنه :

                                                                                                                                قتل ابن عفان الخليفة محرما ودعا فلم أر مثله مخذولا

                                                                                                                                الخليفة محرما ، أي في الشهر الحرام .

                                                                                                                                واللفظ وإن كان مشتركا لكن المشترك في محل النفي يعم ; لعدم التنافي إلا أن الدخول في الشهر الحرام ليس بمراد بالإجماع ; لأن أخذ الصيد في الأشهر الحرم لم يكن محظورا ثم قد نسخت الأشهر الحرم ، فبقي الدخول في الحرم والإحرام مرادا بالآيتين إلا ما خص بدليل ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { ألا إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها } والاستدلال به من وجوه : أحدها : قوله ( مكة حرام ) والثاني : قوله ( حرمها الله تعالى ) والثالث : قوله ( ولا تحل لأحد بعدي ) والرابع : قوله ( ثم عادت حراما إلى يوم القيامة ) والخامس : قوله ( لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ) فإن قتل صيد الحرم فعليه الجزاء محرما كان القاتل أو حلالا ; لقوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل } وجزاؤه ما هو جزاء قاتل صيد الإحرام ، وهو أن تجب عليه قيمته فإن بلغت هديا له أن يشتري بها هديا أو طعاما إلا أنه لا يجوز الصوم هكذا ذكر في الأصل ، وهكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن حكمه حكم صيد الإحرام إلا أنه لا يجوز فيه الصوم وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أن الإطعام يجزئ في صيد الحرم ، ولا يجزئ الصوم عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر يجزئ ، وبه أخذ الشافعي وفي الهدي روايتان .

                                                                                                                                وجه قول زفر الاعتبار بصيد الإحرام ; لأن كل واحد من الضمانين يجب حقا لله تعالى ، ثم يجزئ الصوم في أحدهما كذا في الآخر .

                                                                                                                                ( ولنا ) الفرق بين الصيدين والضمانين ، وهو أن ضمان صيد الإحرام وجب لمعنى يرجع إلى الفاعل ; لأنه وجب جزاء على جنايته على الإحرام فأما ضمان صيد الحرم فإنما وجب لمعنى يرجع إلى المحل ، وهو تفويت أمن الحرم ورعاية لحرمة الحرم ، فكان بمنزلة ضمان سائر الأموال ، وضمان سائر الأموال لا يدخل فيه الصوم كذا هذا .

                                                                                                                                وأما الهدي فوجه رواية عدم الجواز ما ذكرنا أن هذا الضمان يشبه ضمان سائر الأموال ; لأن وجوبه لمعنى في المحل ، فلا يجوز فيه الهدي كما لا يجوز في سائر الأموال إلا أن تكون قيمته مذبوحا مثل قيمة الصيد ، فيجزئ عن الطعام .

                                                                                                                                وجه رواية الجواز أن ضمان صيد الحرم له شبه بأصلين : ضمان الأموال وضمان الأفعال ، أما شبهه بضمان الأموال فلما ذكرنا ، وأما شبهه بضمان الأفعال وهو ضمان الإحرام فلأنه يجب حقا لله تعالى فيعمل بالشبهين ، فنقول : إنه لا يدخل فيه الصوم اعتبارا لشبه الأموال ، ويدخل فيه الهدي اعتبارا لشبه الأفعال وهو الإحرام عملا بالشبهين بالقدر الممكن إذ لا يمكن القول بالعكس ; ولأن الهدي مال فكان بمنزلة الإطعام ، والصوم ليس بمال ولا فيه معنى المال فافترقا ولو قتل المحرم صيدا في الحرم فعليه ما على المحرم إذا قتل صيدا في الحل ، وليس عليه لأجل الحرم شيء ، وهذا استحسان ، والقياس أن يلزمه كفارتان ; لوجود الجناية على شيئين وهما : الإحرام والحرم فأشبه القارن إلا أنهم استحسنوا وأوجبوا كفارة الإحرام لا غير ; لأن حرمة الإحرام أقوى من حرمة الحرم فاستتبع الأقوى الأضعف ، وبيان أن حرمة الإحرام أقوى من وجوه : أحدها : أن حرمة الإحرام ظهر أثرها في الحرم والحل جميعا ، حتى حرم على المحرم الصيد في الحرم والحل جميعا ، وحرمة الإحرام لا يظهر أثرها إلا في الحرم حتى يباح للحلال الاصطياد [ ص: 208 ] لصيد الحرم إذا خرج إلى الحل ، والثاني : أن الإحرام يحرم الصيد وغيره مما ذكرنا من محظورات الإحرام ، والحرم لا يحرم إلا الصيد وما يحتاج إليه الصيد من الخلى والشجر ، والثالث : أن حرمة الإحرام تلازم حرمة الحرم وجودا ; لأن المحرم يدخل الحرم لا محالة ، وحرمة الحرم لا تلازم حرمة الإحرام وجودا ، فثبت أن حرمة الإحرام أقوى فاستتبعت الأدنى بخلاف القارن ; لأن ثمة كل واحدة من الحرمتين أعنى حرمة إحرام الحج وحرمة إحرام العمرة أصل ألا ترى أنه يحرم إحرام العمرة ما يحرمه إحرام الحج فكان كل واحدة منهما أصلا بنفسها فلا تستتبع إحداهما صاحبتها .

                                                                                                                                ولو اشترك حلالان في قتل صيد في الحرم فعلى كل واحد منهما نصف قيمته ، فإن كانوا أكثر من ذلك يقسم الضمان بين عددهم ; لأن ضمان صيد الحرم يجب لمعنى في المحل وهو حرمة الحرم فلا يتعدد بتعدد الفاعل كضمان سائر الأموال بخلاف ضمان صيد الإحرام ، فإن اشترك محرم وحلال فعلى المحرم جميع القيمة وعلى الحلال النصف ; لأن الواجب على المحرم ضمان الإحرام لما بينا ، وذلك لا يتجزأ ، والواجب على الحلال ضمان المحل وأنه متجزئ .

                                                                                                                                وسواء كان شريك الحلال ممن يجب عليه الجزاء أو لا يجب كالكافر والصبي أنه يجب على الحلال بقدر ما يخصه من القيمة ; لأن الواجب بفعله ضمان المحل فيستوي في حقه الشريك الذي يكون من أهل وجوب الجزاء ومن لا يكون من أهله ، فإن قتل حلال وقارن صيدا في الحرم فعلى الحلال نصف الجزاء وعلى القارن جزاءان ; لأن الواجب على الحلال ضمان المحل ، والواجب على المحرم جزاء الجناية ، والقارن جنى على إحرامين فيلزمه جزاءان .

                                                                                                                                ولو اشترك حلال ومفرد وقارن في قتل صيد فعلى الحلال ثلث الجزاء وعلى المفرد جزاء كامل وعلى القارن جزاءان ; لما قلنا ، وإن صاد حلال صيدا في الحرم فقتله في يده حلال آخر فعلى الذي كان في يده جزاء كامل ، وعلى القاتل جزاء كامل أما القاتل فلا شك فيه ; لأنه أتلف صيدا في الحرم حقيقة .

                                                                                                                                وأما الصائد فلأن الضمان قد وجب عليه باصطياده وهو أخذه لتفويته الأمن عليه بالأخذ ، وأنه سبب لوجوب الضمان إلا أنه يسقط بالإرسال وقد تعذر الإرسال بالقتل ، فتقرر تفويت الأمن فصار كأنه مات في يده ، وهذا بخلاف المغصوب إذا أتلفه إنسان في يد الغاصب أنه لا يجب إلا ضمان واحد يطالب المالك أيهما شاء ; لأن ضمان الغصب ضمان المحل وليس فيه معنى الجزاء ; لأنه يجب حقا للمالك ، والمحل الواحد لا يقابله إلا ضمان واحد ، وضمان صيد الحرم وإن كان ضمان المحل لكن فيه معنى الجزاء ; لأنه يجب حقا لله تعالى فجاز أن يجب على القاتل والآخذ .

                                                                                                                                وللآخذ أن يرجع على القاتل بالضمان أما على أصل أبي حنيفة فلا يشكل ; لأنه يرجع عليه في صيد الإحرام عنده فكذا في صيد الحرم ، والجامع أن القاتل فوت على الآخذ ضمانا كان يقدر على إسقاطه بالإرسال .

                                                                                                                                وأما على أصلهما فيحتاج إلى الفرق بين صيد الحرم والإحرام ; لأنهما قالا في صيد الإحرام إنه لا يرجع ووجه الفرق أن الواجب في صيد الحرم ضمان ، يجب لمعنى يرجع إلى المحل ، وضمان المحل يحتمل الرجوع كما في الغصب ، والواجب في صيد الإحرام جزاء فعله لا بدل المحل ألا ترى أنه لا يملك الصيد بالضمان وإذا كان جزاء فعله لا يرجع به على غيره .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية