الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم

استئناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله - تعالى - يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه الآية وما بعده من الآيات إلى هنا .

وافتتح بالنداء للاهتمام ، كما تقدم آنفا .

وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيرا لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفا في نظائره ، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه ، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى .

ففعل الشرط مراد به الدوام ، فإنهم كانوا متقين ، ولكنهم لما حذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك .

ولقد بدا حسن المناسبة إذ رتبت على المنهيات تحذيرات من شرور وأضرار [ ص: 326 ] من قوله إن شر الدواب عند الله الصم البكم وقوله واتقوا فتنة الآية ، ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل .

والفرقان أصله مصدر كالشكران والغفران والبهتان ، وهو ما يفرق أي يميز بين شيئين متشابهين ، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر ، لأنه يفرق بين حالين كانا محتملين قبل ظهور النصر ، ولقب القرآن بالفرقان لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال - تعالى - تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه ، فقد فسر بالنصر ، وعن السدي ، والضحاك ، ومجاهد ، الفرقان : المخرج ، وفي أحكام ابن العربي ، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكا عن قوله - تعالى - يجعل لكم فرقانا قال : مخرجا ، ثم قرأ " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا ، فيشمل ذلك أحوال النفس : من الهداية ، والمعرفة ، والرضى ، وانشراح القلب ، وإزالة الحقد والغل والحسد بينهم ، والمكر والخداع وذميم الخلائق .

وقد أشعر قوله " لكم " أن الفرقان شيء نافع لهم ، فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد ، فيئول إلى استقامة أحوال الحياة ، حتى يكونوا مطمئني البال منشرحي الخاطر ، وذلك يستدعي أن يكونوا منصورين ، غالبين ، بصراء بالأمور ، كملة الأخلاق ، سائرين في طريق الحق والرشد ، وذلك هو ملاك استقامة الأمم ، فاختيار الفرقان هنا لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيره مؤداه في هذا الغرض وذلك من تمام الفصاحة .

والتقوى تشمل التوبة ، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى . ومفعول " يغفر لكم " ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب ، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب ، وهو الصغائر التي عبر عنها باللمم ، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبة لها . وقيل : التكفير الستر في الدنيا ، والغفران عدم المؤاخذة بها في [ ص: 327 ] الآخرة ، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها ، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال .

وقوله والله ذو الفضل العظيم تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية