الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور . [ ص: 154 ]

                                                                                                                                                                                                                                        (210) وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض، المتبعون لخطوات الشيطان، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال، الذي قد حشي من الأهوال والشدائد والفظائع ما يقلقل قلوب الظالمين، ويحق به الجزاء السيئ على المفسدين.

                                                                                                                                                                                                                                        وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والأرض، وتنثر الكواكب، وتكور الشمس والقمر، وتنزل الملائكة الكرام، فتحيط بالخلائق، وينزل الباري تبارك وتعالى: في ظلل من الغمام ليفصل بين عباده بالقضاء العدل، فتوضع الموازين، وتنشر الدواوين، وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود وجوه أهل الشقاوة، ويتميز أهل الخير من أهل الشر، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة، المثبتين للصفات الاختيارية، كالاستواء والنزول والمجيء ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه، أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته، من غير تشبيه ولا تحريف، خلافا للمعطلة على اختلاف أنواعهم من الجهمية والمعتزلة والأشعرية، ونحوهم ممن ينفي هذه الصفات ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان، بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي، بل ولا دليل عقلي، أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة، ظاهرها بل صريحها دال على مذهب أهل السنة والجماعة، وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل، وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم: الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتا لا تشبهها الذوات، [ ص: 155 ] فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته، وصفات خلقه تبع لذواتهم، فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه.

                                                                                                                                                                                                                                        ويقال أيضا لمن أثبت بعض الصفات ونفى بعضا أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع وتكون منكرا لرب العالمين، وأما إثباتك بعض ذلك ونفيك لبعضه فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته وما نفيته، ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت: ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة: والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيها، فإن قلت: لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة أجابك به أهل السنة، لما نفيته.

                                                                                                                                                                                                                                        والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته فهو متناقض، لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي، بل قد خالف المعقول والمنقول.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية