الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 626 ]

                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          فصل

                          50 - اعلم أن البلاء والداء العياء ، أن ليس علم الفصاحة وتمييز بعض الكلام من بعض بالذي تستطيع أن تفهمه من شئت ومتى شئت ، وأن لست تملك من أمرك شيئا حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته وري ، وقلب إذا أريته رأى، فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه ، ولا يهتدي للذي تهديه ، فأنت معه كالنافخ في الفحم من غير نار ، وكالملتمس الشم من أخشم ، وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له ، كذلك لا يفهم هذا الباب من لم يؤت الآلة التي بها يفهم- إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه قد أوتيها ، وأنه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء ، فجعل يخبط ويخلط ، ويقول القول لو علم غبه لاستحيى منه.

                          وأما الذي يحس بالنقص في نفسه ، ويعلم أنه قد عدم علما قد أوتيه من سواه ، فأنت منه في راحة ، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره ، وأن يتكلف ما ليس بأهل له.

                          [ ص: 627 ]

                          وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة ، وقوانين مضبوطة ، قد اشترك الناس في العلم بها ، واتفقوا على أن البناء عليها والرد إليها ، إذا أخطأ فيها المخطئ ثم أعجب برأيه لم تستطع رده عن هواه ، وصرفه عن الرأي الذي رأى ، إلا بعد الجهد ، وإلا بعد أن يكون حصيفا عاقلا ثبتا ، إذا نبه انتبه ، وإذا قيل : "إن عليك بقية من النظر" ، وقف وأصغى ، وخشي أن يكون قد غر ، فاحتاط باستماع ما يقال له ، وأنف من أن يلج من غير بينة ، ويستطيل بغير حجة . وكان من هذا وصفه يعز ويقل : فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في أمر الفصاحة ، وأصلك الذي تردهم إليه ، وتعول في محاجتهم عليه ، استشهاد القرائح ، وسبر النفوس وفليها وما يعرض فيها من الأريحية عندما تسمع؟ وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي ويفي ويقضي ، إلا وعندهم أنهم ممن صفت قريحته ، وصح ذوقه ، وتمت أداته.

                          فإذا قلت لهم : "إنكم أتيتم من أنفسكم ، ومن أنكم لا تفطنون" ، ردوا مثله عليك ، وعابوك ، ووقعوا فيك ، وقالوا :

                          "لا ، بل قرائحنا أصح ، ونظرنا أصدق ، وحسنا أذكى ، وإنما الآفة فيكم ، فإنكم جئتم فخيلتم إلى أنفسكم أمورا لا حاصل لها ، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلا عن الآخر ، من غير أن يكون له ذلك الفضل" ، فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك غير التعجب.

                          [ ص: 628 ]

                          فليس الكلام إذن بمغن عنك ، ولا القول بنافع ، ولا الحجة مسموعة ، حتى تجد من فيه عون لك ، ومن إذا أبي عليك أبى ذاك طبعه فرده إليك ، وفتح سمعه لك ، ورفع الحجاب بينه وبينك ، وأخذ به إلى حيث أنت ، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت ، فاستبدل بالنفار أنسا ، وأراك من بعد الإباء قبولا ، وبالله التوفيق .





                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية