الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 645 ] سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله - عن قوله تعالى { حق اليقين } و { عين اليقين } و { علم اليقين } فما معنى كل مقام منها ؟ وأي مقام أعلى ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . للناس في هذه الأسماء مقالات معروفة . ( منها : أن يقال : علم اليقين ما علمه بالسماع والخبر والقياس والنظر و { عين اليقين } ما شاهده وعاينه بالبصر و { حق اليقين } ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار .

                " فالأولى " مثل من أخبر أن هناك عسلا وصدق المخبر . أو رأى آثار العسل فاستدل على وجوده . و " الثاني " مثل من رأى العسل وشاهده وعاينه وهذا أعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { ليس المخبر كالمعاين } . [ ص: 646 ] و " الثالث " مثل من ذاق العسل ووجد طعمه وحلاوته ومعلوم أن هذا أعلى مما قبله ; ولهذا يشير أهل المعرفة إلى ما عندهم من الذوق والوجد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } وقال صلى الله عليه وسلم { ذاق طعم الإيمان : من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا } فالناس فيما يجده أهل الإيمان ويذوقونه من حلاوة الإيمان وطعمه على ثلاث درجات : " الأولى " من علم ذلك مثل من يخبره به شيخ له يصدقه أو يبلغه ما أخبر به العارفون عن أنفسهم أو يجد من آثار أحوالهم ما يدل على ذلك .

                و " الثانية " من شاهد ذلك وعاينه مثل أن يعاين من أحوال أهل المعرفة والصدق واليقين ما يعرف به مواجيدهم وأذواقهم وإن كان هذا في الحقيقة لم يشاهد ما ذاقوه ووجدوه ولكن شاهد ما دل عليه لكن هو أبلغ من المخبر والمستدل بآثارهم .

                و " الثالثة " أن يحصل له من الذوق والوجد في نفسه ما كان [ ص: 647 ] سمعه كما قال بعض الشيوخ : لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب . وقال آخر : إنه ليمر على القلب أوقات يرقص منها طربا . وقال الآخر : لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم . والناس فيما أخبروا به من أمر الآخرة على ثلاث درجات : ( إحداها العلم بذلك لما أخبرتهم الرسل وما قام من الأدلة على وجود ذلك .

                " الثانية " : إذا عاينوا ما وعدوا به من الثواب والعقاب والجنة والنار . و " الثالثة " إذا باشروا ذلك ; فدخل أهل الجنة الجنة ; وذاقوا ما كانوا يوعدون ودخل أهل النار النار وذاقوا ما كانوا يوعدون فالناس فيما يوجد في القلوب وفيما يوجد خارج القلوب على هذه الدرجات الثلاث .

                وكذلك في أمور الدنيا : فإن من أخبر بالعشق أو النكاح ولم يره ولم يذقه كان له علم به فإن شاهده ولم يذقه كان له معاينة له فإن ذاقه بنفسه كان له ذوق وخبرة به ومن لم يذق الشيء لم يعرف حقيقته فإن [ ص: 648 ] العبارة إنما تفيد التمثيل والتقريب وأما معرفة الحقيقة فلا تحصل بمجرد العبارة إلا لمن يكون قد ذاق ذلك الشيء المعبر عنه وعرفه وخبره ; ولهذا يسمون أهل المعرفة لأنهم عرفوا بالخبرة والذوق ما يعلمه غيرهم بالخبر والنظر وفي الحديث الصحيح : { أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان بن حرب فيما سأله عنه من أمور النبي صلى الله عليه وسلم قال : فهل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه ؟ قال : لا قال : وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلب لا يسخطه أحد } . فالإيمان إذا باشر القلب وخالطته بشاشته لا يسخطه القلب بل يحبه ويرضاه فإن له من الحلاوة في القلب واللذة والسرور والبهجة ما لا يمكن التعبير عنه لمن لم يذقه والناس متفاوتون في ذوقه والفرح والسرور الذي في القلب له من البشاشة ما هو بحسبه وإذا خالطت القلب لم يسخطه قال تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } وقال تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه } وقال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } فأخبر سبحانه أنهم يستبشرون بما أنزل من القرآن والاستبشار هو الفرح والسرور ; وذلك لما يجدونه في قلوبهم من الحلاوة واللذة والبهجة بما أنزل الله .

                [ ص: 649 ] و " اللذة " أبدا تتبع المحبة فمن أحب شيئا ونال ما أحبه وجد اللذة به ; فالذوق هو إدراك المحبوب اللذة الظاهرة كالأكل مثلا : حال الإنسان فيها أنه يشتهي الطعام ويحبه ثم يذوقه ويتناوله فيجد حينئذ لذته وحلاوته وكذلك النكاح وأمثال ذلك . وليس للخلق محبة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى . وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يحب لأجل الله ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله . كما قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وفي الحديث { أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم } إلى قوله : { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } .

                وفي حديث الترمذي وغيره { من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } فالذين آمنوا أشد حبا لله من كل محب لمحبوبه . وقد بسطنا الكلام على هذا في مواضع متعددة .

                [ ص: 650 ] و " المقصود هنا " أن أهل الإيمان يجدون بسبب محبتهم لله ولرسوله من حلاوة الإيمان ما يناسب هذه المحبة ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه بالمحبة فقال : { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار } . ومن ذلك ما يجدونه من ثمرة التوحيد والإخلاص . والتوكل والدعاء لله وحده فإن الناس في هذا الباب على ثلاث درجات : " منهم " من علم ذلك سماعا واستدلالا .

                " ومنهم " من شاهد وعاين ما يحصل لهم . و " منهم " من وجد حقيقة الإخلاص والتوكل على الله الالتجاء إليه والاستعانة به ، وقطع التعلق بما سواه وجرب من نفسه أنه إذا تعلق بالمخلوقين ورجاهم وطمع فيهم أن يجلبوا له منفعة أو يدفعوا عنه مضرة فإنه يخذل من جهتهم ; ولا يحصل مقصوده بل قد يبذل لهم من الخدمة والأموال وغير ذلك ما يرجو أن ينفعوه وقت حاجته إليهم فلا ينفعونه : إما لعجزهم وإما لانصراف قلوبهم عنه وإذا [ ص: 651 ] توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصا له الدين ; أجاب دعاءه ; وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة . فمثل هذا قد ذاق [ من ] حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذق غيره .

                وكذلك من ذاق طعم إخلاص الدين لله وإرادة وجهه دون ما سواه ; يجد من الأحوال والنتائج والفوائد ما لا يجده من لم يكن كذلك . بل من اتبع هواه في مثل طلب الرئاسة والعلو ; وتعلقه بالصور الجميلة أو جمعه للمال يجد في أثناء ذلك من الهموم والغموم والأحزان والآلام وضيق الصدر ما لا يعبر عنه . وربما لا يطاوعه قلبه على ترك الهوى ولا يحصل له ما يسره ; بل هو في خوف وحزن دائما : إن كان طالبا لما يهواه فهو قبل إدراكه حزين متألم حيث لم يحصل . فإذا أدركه كان خائفا من زواله وفراقه . وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ; فإذا ذاق هذا أو غيره حلاوة الإخلاص لله . والعبادة له . وحلاوة ذكره ومناجاته . وفهم كتابه . وأسلم وجهه لله وهو محسن بحيث يكون عمله صالحا . ويكون لوجه الله خالصا ; فإنه يجد من السرور واللذة والفرح ما هو أعظم مما يجده الداعي المتوكل الذي نال بدعائه وتوكله ما ينفعه من الدنيا . أو اندفع عنه ما يضره ; فإن حلاوة ذلك هي بحسب ما حصل له من [ ص: 652 ] المنفعة أو اندفع عنه من المضرة ولا أنفع للقلب من التوحيد وإخلاص الدين لله ولا أضر عليه من الإشراك . فإذا وجد حقيقة الإخلاص التي هي حقيقة { إياك نعبد } مع حقيقة التوكل التي هي حقيقة { وإياك نستعين } كان هذا فوق ما يجده كل أحد لم يجد مثل هذا . والله أعلم .




                الخدمات العلمية