الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون

هذه آية اعتبار، وقرأ حمزة ، والكسائي : "والله خالق كل" على الإضافة، وقرأ الجمهور : "والله خلق كل"، و "الدابة": كل من يدب من الحيوان، أي يتحرك منتقلا أمامه قدما، ويدخل فيه الطير إذ قد يدب، ومنه قول الشاعر:


..................... دبيب قطا البطحاء في كل منهل

[ ص: 401 ] ويدخل فيه الحوت، وفي الحديث دابة من البحر مثل الظرب ، وقوله: "من ماء" قال النقاش : أراد أمنية الذكور، وقال جمهور النظرة: أراد أن خلقة كل حيوان أن فيها ماء كما خلق آدم من الماء والطين، وعلى هذا يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الذي سأل في غزاة بدر : ممن أنتما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء ، الحديث.

والمشي على البطن للحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره، وعلى الرجلين للإنسان والطير إذا مشى، والأربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب : "ومنهم من يمشي على أكثر"، فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان، ولكنه قرآن لم يثبته الإجماع، لكن قال النقاش : إنما اكتفى القول بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع، وهي قوام مشيه، وكثرة الأرجل في بعضه زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلا، بل هي محتاج إليها في تنقل الحيوان، وفي كلها تتحرك في تصرفه.

وقوله تعالى: آيات مبينات يعم كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعه للعبرة، وكل ما نص في كتابه من آية تنبيه وتذكير، وأخبر تعالى أنه أنزل الآيات ثم قيد الهداية إليها لأنه من قبله لبعض دون بعض.

[ ص: 402 ] وقوله تعالى: ويقولون آمنا بالله الآية، نزلت في المنافقين، وسببها فيما روي أن رجلا من المنافقين اسمه بشر كان بينه وبين رجل من اليهود خصومة، فدعاه اليهود إلى التحاكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلا، فأبى من ذلك ودعا اليهود إلى كعب بن الأشرف ، فنزلت هذه الآية فيه ، وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: من دعاه خصمه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم. و "مذعنين" أي مظهرين للانقياد والطاعة، وهم إنما فعلوا ذلك حيث أيقنوا بالنجح، وأما إذا طلبوا بحق فهم عنه معرضون. ثم وقفهم تعالى على أسباب فعلهم توقيف توبيخ، أي ليقروا بأحد هذه الوجوه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم، وهذا التوقيف يستعمل في الأمور الظاهرة مما يوبخ به أو مما يمدح به، فهو بليغ جدا، ومنه قول جرير :


ألستم خير من ركب المطايا     البيت ....................

ثم حكم عليهم بأنهم هم الظالمون، وقال: أن يحيف الله عليهم ورسوله من حيث إن [ ص: 403 ] الرسول عليه الصلاة والسلام إنما يحكم بأمر الله وشرعه. والحيف: الميل.

التالي السابق


الخدمات العلمية