الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              1672 [ ص: 551 ] (باب الصدقة عن الأم الميتة)

                                                                                                                              وقال النووي : (وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 89-90 ج 7 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عائشة، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" .]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عائشة ) رضي الله عنها: (أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! إن أمي افتلت نفسها) .

                                                                                                                              قال النووي : ضبطناه: (نفسها) بنصب السين، ورفعها.

                                                                                                                              فالرفع على أنه: مفعول ما لم يسم فاعله. والنصب على أنه: مفعول ثان.

                                                                                                                              قال عياض : أكثر روايتنا فيه، بالنصب.

                                                                                                                              " وافتلتت " بالفاء. هذا هو الصواب، الذي رواه أهل الحديث وغيرهم.

                                                                                                                              [ ص: 552 ] ورواه ابن قتيبة: " اقتتلت " بالقاف. قال: وهي كلمة يقال لمن مات فجاءة، ويقال أيضا لمن قتلته الجن والعشق.

                                                                                                                              والصواب: "الفاء". قالوا: ومعناه: ماتت فجاءة. وكل شيء فعل بلا تمكث، فقد افتلت.

                                                                                                                              ويقال: افتلت الكلام، واقترحه، واقتضبه: إذا ارتجله.

                                                                                                                              (ولم توص. وأظنها لو تكلمت تصدقت. أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم") .

                                                                                                                              بكسر الهمزة من "إن". وهذا لا خلاف فيه.

                                                                                                                              قال عياض : هكذا الرواية. قال: ولا يصح غيره؛ لأنه إنما سأل عما لم يفعله بعد.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث: أن الصدقة عن الميت تنفع الميت. ويصله ثوابها.

                                                                                                                              قال النووي : وهو كذلك بإجماع العلماء.

                                                                                                                              وكذا أجمعوا على وصول الدعاء، وقضاء الدين، بالنصوص الواردة في الجميع.

                                                                                                                              [ ص: 533 ] قال: ويصح الحج عن الميت، إذا كان حج الإسلام. وكذا إذا وصى بحج التطوع، على الأصح عندنا.

                                                                                                                              واختلف العلماء في الصوم، إذا مات وعليه صوم. والراجح جوازه عنه، للأحاديث الصحيحة فيه.

                                                                                                                              قال: والمشهور في مذهبنا: أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها.

                                                                                                                              وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها . وبه قال أحمد بن حنبل.

                                                                                                                              وأما الصلاة وسائر الطاعات، فلا تصله عندنا، ولا عند الجمهور.

                                                                                                                              وقال أحمد: يصله ثواب الجميع، انتهى.

                                                                                                                              وأقول: يصح الحج عن الميت، إذا كان عن قريب الميت لا عن غيره. وأصح القول في سائر ما ذكره: قول أحمد.

                                                                                                                              قال الشوكاني في شرح المنتقى، في باب وصول ثواب القرب المهداة إلى الموتى، في الجزء الثالث، بعد ما ذكر الأحاديث الواردة في ذلك:

                                                                                                                              أحاديث الباب (تدل على أن الصدقة من الولد، تلحق الوالدين [ ص: 554 ] بعد موتهما، بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها.

                                                                                                                              فيخصص بهذه الأحاديث: عموم قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .

                                                                                                                              ولكن ليس في أحاديث الباب، إلا لحوق الصدقة من الولد.

                                                                                                                              وقد ثبت: أن ولد الإنسان من سعيه، فلا حاجة (إلى دعوى التخصيص.

                                                                                                                              وأما من غير الولد، فالظاهر من العمومات القرآنية، أنه لا يصل ثوابه إلى الميت. فيوقف عليها حتى يأتي دليل، يقتضي تخصيصهم.

                                                                                                                              (وقد اختلف في غير الصدقة، من أعمال البر) : هل يصل إلى الميت؟

                                                                                                                              فذهبت المعتزلة: إلى أنه لا يصل إليه شيء. واستدلوا بعموم الآية.

                                                                                                                              وقال في (شرح الكنز: إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله) لغيره؛ صلاة كان، أو صوما، أو حجا، أو صدقة، أو قراءة قرآن، أو غير ذلك، من جميع أنواع البر.

                                                                                                                              (ويصل ذلك إلى الميت، وينفعه عند أهل السنة.)

                                                                                                                              [ ص: 555 ] والمشهور من مذهب الشافعي، وجماعة من أصحابه: أنه لا يصل إلى الميت (ثواب قراءة القرآن.

                                                                                                                              وذهب أحمد بن حنبل، وجماعة من العلماء) ، وجماعة من أصحاب الشافعي : إلى أنه يصل.

                                                                                                                              كذا ذكره النووي في الأذكار.

                                                                                                                              (وفي شرح المنهاج، لابن الجوزي) : لا يصل إلى الميت عندنا، ثواب (القراءة على المشهور) .

                                                                                                                              والمختار: الوصول، إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته.

                                                                                                                              وينبغي الجزم به؛ لأنه (دعاء. فإذا جاز الدعاء للميت مما ليس للداعي، فلأن يجوز بما هو له) أولى.

                                                                                                                              ويبقى الأمر فيه، موقوفا على استجابة الدعاء.

                                                                                                                              وهذا المعنى (لا يختص بالقراءة، بل يجري في سائر الأعمال.

                                                                                                                              والظاهر: أن الدعاء متفق عليه) : أنه ينفع الميت والحي، والقريب والبعيد، بوصية وغيرها.

                                                                                                                              وعلى ذلك (أحاديث كثيرة. بل كان أفضل الدعاء: أن يدعو لأخيه بظهر الغيب) .

                                                                                                                              [ ص: 556 ] قال: وقد حكى النووي في شرح مسلم ": الإجماع، على وصول الدعاء إلى الميت.

                                                                                                                              وكذا (حكى الإجماع، على أن الصدقة تقع عن الميت، ويصله ثوابها.

                                                                                                                              ولم يقيد ذلك بالولد.

                                                                                                                              وحكي أيضا: الإجماع على لحوق قضاء الدين.

                                                                                                                              (والحق أنه: يخصص عموم الآية بالصدقة من الولد، كما في أحاديث الباب. وبالحج من الولد) ، كما في خبر الخثعمية.

                                                                                                                              ومن غير الولد أيضا، كما في أحاديث الباب، وكما في حديث المحرم عن أخيه "شبرمة "، (ولم يستفصله صلى الله عليه وآله وسلم) :

                                                                                                                              هل أوصى " شبرمة"، أم لا؟

                                                                                                                              وبالعتق من الولد، كما وقع في البخاري، من حديث سعد. خلافا للمالكية على المشهور عندهم.

                                                                                                                              وبالصلاة من الولد أيضا، لما روى الدارقطني:

                                                                                                                              (أن رجلا قال: يا رسول الله! إنه كان لي أبوان أبرهما في حال حياتهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟

                                                                                                                              فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن من البر بعد البر: أن تصلي لهما مع صلاتك. وأن تصوم لهما مع صيامك ".)
                                                                                                                              [ ص: 557 ] وبالصيام من الولد. لهذا الحديث، ولحديث عبد الله بن عمرو المذكور في الباب، ولحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم:

                                                                                                                              (أن امرأة قالت: يا رسول الله ! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر. فقال:

                                                                                                                              "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها ؟ " قالت: نعم. قال: " قومي عن أمك ".)


                                                                                                                              وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي : من حديث بريدة:

                                                                                                                              (أن امرأة قالت: إنه كان على أمي صوم شهر، أفأصوم عنها ؟ قال: "صومي عنها ".)

                                                                                                                              ومن غير الولد أيضا، لحديث: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ". متفق عليه، من حديث عائشة .

                                                                                                                              وبقراءة "يس" من الولد وغيره. لحديث: (اقرأوا على موتاكم "يس") .

                                                                                                                              وبالدعاء من الولد، لحديث: " أو ولد صالح يدعو له".

                                                                                                                              ومن غيره لحديث: " استغفروا لأخيكم. وسلوا له التثبيت. فإنه الآن يسأل".

                                                                                                                              ولحديث: " فضل الدعاء للأخ، بظهر الغيب".

                                                                                                                              ولقوله: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .

                                                                                                                              [ ص: 558 ] ولما ثبت من الدعاء للميت، عند الزيارة. كحديث بريدة عند مسلم، وأحمد، وابن ماجة :

                                                                                                                              (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم -إذا خرجوا إلى المقابر- أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار! من المؤمنين، والمسلمين. وإنا - إن شاء الله - بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية ".)

                                                                                                                              وبجميع ما يفعله الولد لوالديه، من أعمال البر. لحديث: " ولد الإنسان من سعيه".

                                                                                                                              وكما تخصص هذه الأحاديث المتقدمة لذلك، يخصص حديث أبي هريرة عند مسلم، وأهل السنن:

                                                                                                                              (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" .) فإن ظاهره، أنه ينقطع عنه ما عدا هذه الثلاثة، كائنا ما كان.

                                                                                                                              وقد قيل: إنه يقاس على هذه المواضع، التي وردت بها الأدلة: غيرها.

                                                                                                                              فيلحق المبيت: كل شيء فعله غيره.

                                                                                                                              وقال في "شرح الكنز ": إن الآية منسوخة بقوله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية.

                                                                                                                              وقيل: " الإنسان " أريد به الكافر. وأما المؤمن فله ما سعى إخوته، وقيل: ليس له من طريق العدل. وهو له من طريق الفضل.

                                                                                                                              [ ص: 559 ] وقيل: "اللام" بمعنى " على ". كما في قوله تعالى: لهم اللعنة أي: عليهم. انتهى.

                                                                                                                              هذا آخر كلام (نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار) .

                                                                                                                              وفيه: ما يكفي ويشفي، في هذه المسألة. وبالله التوفيق.




                                                                                                                              الخدمات العلمية