الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( الحج )

                                                          وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ( 196 الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث [ ص: 598 ] ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب

                                                          * * *

                                                          هاتان الآيتان متصلتان بما قبلهما أوثق الاتصال ، وذلك بأن الآيات الكريمة من قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر فيها تنظيم للجماعة الفاضلة ; ببيان حق الفقير في مال الغني ، وبيان المساواة العادلة في تطبيق القوانين الإسلامية ، لا فرق بين قوي وضعيف ، ولا شريف ووضيع ، وبيان أن العقوبة تكون على قدر الجريمة ، وإن في ذلك حياة الجماعة حياة فاضلة عادلة ولكم في القصاص حياة وفيها تنظيم للأسرة بالتعاون بين آحادها ; بأن يمد الغني الفقير بالهبات في الحياة ، والوصايا بعد الوفاة ، وفيها بيان لما يهذب النفس ، ويقوي الروح فذكر الصيام ، ثم فيه إشارة إلى الحج الذي يجمع في ثناياه بين إصلاح الآحاد في ذات أنفسهم ، وإصلاح الجماعة وتنظيمها ، وفي أحكامه تتلاقى ذرائع التنظيم الاجتماعي ، والإصلاح النفسي ; فهو في ذاته رحلة روحية يشارف المؤمن فيها المقام القدسي ، إذ يحل في المكان الذي شرفه الله سبحانه بنسبته إليه ، ووضع قواعده النبيون الصديقون ، وفيه الصدقات وإمداد الفقراء ; بل في بعض كفاراته الصوم ; وفيه التنظيم الاجتماعي العام بالتعارف بين المسلمين في كل البقاع ; فكان حقا أن يجيء الحج بعد الأحكام المنظمة ، والعبادات المصلحة للنفس ، المهذبة للروح ; لأنه يجمعها في أحكامه .

                                                          ولكن الحج في إبان نزول القرآن كان متعذرا أو متعسرا ; لأن المزار الأكبر وهو البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، كان المشركون قد سيطروا عليه ، والأصنام تحيط به من كل جانب ، وهم يمنعون المسلمين منه ، والعداوة بينهم وبين النبي وصحبه مستعرة ; فكان لا بد من القتال للوصول إليه ، وأداء تلك الشريعة الإسلامية ; لذلك جاء ذكر [ ص: 599 ] القتال بين الإشارة إليه بقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها وبين بيان بعض أحكامه في قوله تعالى :

                                                          وأتموا الحج والعمرة لله

                                                          ثم هناك ارتباط خاص بين أحكام القتال وأحكام الحج ، لأن القتال جهاد لحماية الدولة في الخارج ، والحج جهاد لتهذيب النفس وحماية الدولة الإسلامية في الداخل ، بالجمع بين أقطارها ، والتعارف العام بين شعوبها ، ونشر المساواة العادلة بين آحادها ; ولذلك لم يعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عبادة تلي الجهاد في سبيل الله غير الحج لله .

                                                          ثم هناك مناسبة خاصة بين الآية الأولى وأحكام القتال ، لأن فيها بيان حكم من يمنعه عدو من الوصول إلى البيت الحرام ، وقد حدث في العام السادس أن منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الوصول إلى البيت الحرام ، وهم بأن يمتشق السلاح ويقاتل حتى يصل إليه بقوة السلاح ، ولكن كان الصلح على أن يرجع من عامه هذا ، ثم عاد في العام السابع وأدى عمرة القضاء . فكانت هذه الآية ذات مناسبة خاصة تربطها بالقتال والجهاد في سبيل الله تعالى .

                                                          وهذه الآيات في بعض أحكام الحج ; ولذلك نبين هذه الأحكام ولا نتعرض للتفريع واختلاف الفقهاء إلا بالقدر الذي يكون تفسيرا لكلماتها ، أو يكون مستمدا من ظلالها أو قابسا من نورها .

                                                          وأتموا الحج والعمرة لله الحج في أصل معناه اللغوي : القصد ، وخصه الراغب الأصفهاني بالقصد للزيارة ; ومن ذلك قول الشاعر :


                                                          . . . . . . . . . يحجون بيت الزبرقان المعصفر



                                                          والعمرة في الأصل اللغوي تتلاقى مع مادة العمارة التي هي ضد الخراب ويراد بالعمرة في اللغة: الزيارة التي يقصد بها عمارة المكان ، وعمارة القلوب بالود، وتلاقيها على صفاء المحبة والإخلاص.

                                                          [ ص: 600 ] هذا هو الأصل اللغوي لمعنى كلمتي الحج والعمرة ; وقد صارت الكلمتان من الألفاظ الإسلامية التي خصها الشرع بمعان تتصل بأصل معناها اللغوي; فالحج في أصل معناه كما رأيت قصد المكان للزيارة ، فصار في المعنى الإسلامي يطلق على قصد بيت الله الحرام وعرفات والمشعر الحرام للزيارة بشروط خاصة وأركان خاصة ، جماعها المتفق عليه الذي لا خلاف فيه بين أهل العلم ثلاثة : الإحرام، وهو بالنسبة للحج كتكبيرة الإحرام بالنسبة للصلاة، والوقوف بعرفة، وهو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الحج عرفة " لأن له وقتا معينا إذا فات الشخص فاته الحج في هذا العام ; ووجب الحج من قابل ، والطواف .

                                                          وقد اختلف في الوجوب فيما عدا هذه الثلاثة من السعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة وغيرهما.

                                                          والعمرة قد رأيت أنها في أصل معناها للزيارة المقصود بها عمارة المكان بالأشخاص ، وعمارة النفوس بالمودة والإخلاص، وقد خصها الإسلام بزيارة بيت الله الحرام ، وتلاقي النفوس فيه على مودة ورحمة وإخاء ، ولها أركان خاصة وشروط ، وجماع أركانها المتفق عليها بين الفقهاء اثنان: الإحرام والطواف .

                                                          وقد أمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة لله ; فنص بهذا على وجوب أن تكون هذه العبادة خالصة لله سبحانه وتعالى لا يشرك المؤمن فيها مع الله سبحانه وتعالى أحدا ; وكذلك الشأن في كل عبادة، بل في كل عمل خير، يجب أن يتجه العبد فيه إلى الله سبحانه ، لا يقصد غير الله ، ولا يريد بعمله إلا وجهه ; لأن من كمال الإيمان أن يحب المؤمن الشيء لا يحبه إلا لله ، ومن كمال الإيمان أن يكون هوى المؤمن وغاياته ومقاصده تبعا لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يقصد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى .

                                                          [ ص: 601 ] وكل عبادة لا يقصد بها وجه الله لا يثاب عليها صاحبها ، بل إنها جديرة بالعقاب لا بالثواب ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قرر بأن ذلك شرك ; وهو الذي يقول عنه العلماء إنه الشرك الخفي ، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " وقد سماه العلماء شركا خفيا لأن صاحبه يخفيه ولا يبديه ، ولأنه دقيق لا يدركه إلا ذوو النفوس الطاهرة ، والقلوب البارة التي تحاسب نفسها ; ولأنه بلا ريب دون عبادة الأوثان ، وإن كان من بابها ; وقد وجدنا في عصرنا ناسا يجاهرون بأنهم يتصدقون بالصدقة العظيمة يبتغون بها الجاه ، أو ملق أصحاب الجاه ، فبأي اسم يسمى عملهم ; أيسمى شركا خفيا ، أم يسمى شركا جليا ؟ وهو على أي حال مروق من الدين ، إذ قد اطرح فيه جانب رب العالمين .

                                                          وما المراد بالأمر بإتمام الحج والعمرة : أيراد بالأمر إقامتهما ، وإيجادهما ، أم يراد بالأمر إتمامهما لا أصل إقامتهما بأن يراد الإتيان بهما تامين ؟ فيكون الأمر منصبا على الإتمام ، لا على أصل الأداء ; ويكون المعنى على الأولى : أقيموا الحج والعمرة أي أدوهما ، كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل فليس الاتجاه إلى الإتمام بل إلى الإنشاء ; والمعنى على الثاني ائتوا بهما تامين ، أي كاملي الأركان قد استوفيت شروط كل منهما ، خالصين لوجه الله سبحانه وتعالى لا تشوبهما شائبة من رياء .

                                                          هناك اتجاهان في هذا المقام ; فبعض الفقهاء ومعهم بعض المفسرين ، وسبقهم بعض التابعين والصحابة على أن المراد بالأمر الإنشاء والإتيان والإقامة ، فمعنى أتموا الحج والعمرة ائتوا بهما ; وعلى هذا المنهج علقمة والنخعي وسعيد بن جبير وعطاء ، وطاوس ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم ; ولهذا قرروا أن العمرة واجبة كالحج ، وهذا ما قرره الشافعي على أحد قوليه وسفيان الثوري .

                                                          [ ص: 602 ] والاتجاه الثاني هو أن المراد بالأمر الأمر بالإتمام ; أي أنه إذا شرع فيهما أو في أحدهما عليه أن يتمه ويأتي به كاملا ، وإذا لم يستطع إتمامه أو عدل عنه فعليه أن يعيده ، وتكون الإعادة واجبة ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه في عمرة القضاء ; وعلى ذلك الرأي لا تكون العمرة واجبة لعدم قيام الدليل على وجوبها ، وليس في هذه الآية الكريمة ما يفيد الوجوب فهي لا تفيد وجوب حج ولا وجوب عمرة ، بل تفيد وجوب الإتمام إن شرع في أحدهما ، وقد ثبتت فرضية الحج بآية أخرى ، وهي قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا

                                                          وعلى هذا الرأي جمهور الفقهاء وجمهور التابعين وكثرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فهي على هذا الاتجاه سنة . وقد تأيد استنباط هؤلاء من الآية الكريمة بأقوال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد صحت عنه ، وثبتت نسبتها إليه ; وفوق ذلك فإن أركان العمرة تدخل في ثنايا أركان الحج ; ولذلك ورد في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " .

                                                          والقول الجملي أن فرضية الحج مجمع عليها ; وأما فرضية العمرة ففيها خلاف ، وقد فرض الحج في العام التاسع من الهجرة على أرجح الروايات .

                                                          وقد ذكرنا أن أول أركان الحج الإحرام ، وأنه من الحج كتكبيرة التحريم بالنسبة للصلاة ، ينوى به الدخول في الحج ، كما ينوى بها الدخول في الصلاة ; وإذا تم الإحرام على وجهه صار الشخص حاجا ، فيلبس غير المخيط ، ولا يحلق رأسه ، ولا يقصر شعره ، ويحرم عليه الصيد ، وتحرم عليه النساء ، كما يحرم على المرأة الرجال . . وهكذا يستمر في تلك الشعيرة المباركة حتى يتحلل من الإحرام بالذبح والحلق ، كما يخرج المصلي من الصلاة بالتسليم .

                                                          [ ص: 603 ] والإحرام له ميقات من الزمان والمكان ، فهو بالنسبة للزمان يكون في أشهر الحج ، كما تبين ، وفي المكان يكون في مداخل الحرم المكي ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمكنة لأهل كل جهة ومن وراءهم ويجيء عن طريقهم ، فجعل لأهل المدينة ومن وراءهم قرية ذي الحليفة ، ولأهل الشام ومن وراءهم كأهل مصر قرية الجحفة التي تقرب من قرية رابغ ، ولأهل نجد جبل قرن ، ولأهل العراق ذات عرق .

                                                          فإذا نوى الحج أحد من هذه الأماكن صار محرما تحرم عليه محرمات الحج ; إلا أنه قد يعرض له ما يرخص له قطع الإحرام أو التحلل من بعض ما حرم عليه ; وذلك في ثلاثة أحوال ، اثنتان فيهما معنى الاضطرار ، وثالثة فيها اختيار ; فالأوليان حال الإحصار ، وحال المرض ; والثالثة حال التمتع ، وقد ابتدأ سبحانه بذكر الأولى فقال : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي

                                                          مادة الحصر في اللغة تدل على التضييق ، ومن ذلك قوله تعالى في شأن القتال : واحصروهم أي ضيقوا عليهم ، ولذلك أطلقت على الحبس . وقال سبحانه : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا أي محبسا .

                                                          هذا موضع اتفاق بين علماء اللغة ، ولكن الخلاف بينهم في الفرق بين الإحصار ، والحصر ; فقد قال الكسائي وأبو عبيدة وكثيرون من علماء اللغة: الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة ، أي ما يكون الحبس فيه من ذات الشخص لا من أمر خارج عنه، والحصر هو حصر العدو ، وعلى هذا يقال أحصره المرض ، وحصره العدو، وقال الفراء : هما بمعنى واحد ; فيقال حصره المرض وأحصره ، وحصره العدو وأحصره، وقال الراغب الأصفهاني : إن الإحصار أعم من الحصر، [ ص: 604 ] فهو يستعمل للحبس بالعدو وبالمرض ونحوه ، وأما الحصر فيستعمل في المنع من ذات الشخص بالمرض ونحوه فقط .

                                                          ولقد قال أبو العباس المبرد والزجاج : إن كليهما يكون للحبس بعمل العدو ، وبالمرض ونحوه ; ولكنهما مع ذلك مختلفان في المعنى ; فالحصر معناه الحبس ، والإحصار معناه التعرض للحبس والضيق، بالعدو أو المرض; كما يقال حبسه بمعنى أدخله في المحبس، وأحبسه بمعنى عرضه للحبس، وقتله بمعنى أوقع به القتل، وأقتله بمعنى عرضه للقتل ، وقبره بمعنى دفنه ، وأقبره بمعنى عرضه للدفن . وعندي أن هذا هو الفرق الدقيق الذي يكون بين الحصر والإحصار ، فالفرق بينهما في معنى الاستعمال الدقيق; لا في موضع الاستعمال .

                                                          وقد فصلنا القول ذلك التفصيل في هذا اللفظ ، وانتهينا إلى ما انتهينا إليه; لأن الفقهاء اختلفوا في الحكم ، وبنوا اختلافهم على اختلاف اللغويين في معنى اللفظ ; فالحنفية قرروا أن الإحصار بالمرض أو بالعدو يسيغ التحلل بذبح الهدي، على أن يقضي الحج والعمرة من بعد إن كان الإحرام بعمرة ; والمالكية والشافعية قرروا أن الإحصار في الآية لا يكون إلا من العدو; أما المريض فإنه يستمر على إحرامه حتى يبرأ من مرضه ، ويذهب إلى البيت فيطوف به سبعا ، ويسعى بين الصفا والمروة ، وبهذا يتحلل من عمرته أو حجه ; وقريب من ذلك قال المالكية ; فإنهم يرون أيضا أن المريض لا يتحلل بالذبح ، بل ينتظر حتى يبرأ من المرض ، فإن برئ وكان في استطاعته أداء الحج بأن يدرك وقفة عرفات أتم الحج ، وإن لم يدرك كان مخيرا بين أن يستمر على إحرامه حتى يؤدي من قابل ، وبين أن يذهب ويتحلل بالطواف والسعي بين الصفا والمروة ; وقد أخذوا ذلك الحكم من الآية الكريمة ، إذ فهموا أن الإحصار لا يكون إلا للعدو ; ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما منع هو وأصحابه من أداء الحج تحللوا بالذبح وأما المرض فلم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بذاته أباح التحلل [ ص: 605 ] المطلق ، بل يرخص للمريض في بعض ما يحرم على المحرم ، ولذلك فدية سنبينها . و " الهدي " : اسم جنس جمعي ، وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو الياء المشددة ، والمفرد هدية ، والمراد ما يذبح من نحو الشاة والبقر والإبل ، أي ما يذبح من النعم ; والمطلوب أيسره ، ولذلك قال سبحانه : فما استيسر من الهدي والأيسر هو الشاة ونحوها .

                                                          واستيسر بمعنى يسر وتيسر ، لأن الاستيسار واليسر بمعنى واحد ، كاستصعب وصعب بمعنى واحد ; ولكن يجب أن يلاحظ أن السين والتاء في استيسر ما زالتا تشيران إلى المعنى الأصلي لهما وهو الطلب ، وقوله تعالى : فما استيسر من الهدي على هذا المعنى يكون حثا للمكلف على أن يطلب اليسير السهل الذي يؤدى من غير كلفة ومشقة ، لا العسير الصعب الذي لا يؤدى إلا بمشقة وجهد .

                                                          وإن ذلك سير على مبدأ الإسلام العام الذي يطالب دائما بالسهل اليسير ، لا بالصعب العسير ; ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبرت عائشة رضي الله عنها : " ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما " . ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحث على طلب الرفيق من الأمور والتكليف ، ويقول في دينه " أوغل فيه برفق " ، وينهى عن التشدد وطلب الشاق ، ويقول : " لن يشاد الدين أحد إلا غلبه " ، ويقول : " سددوا وقاربوا " .

                                                          [ ص: 606 ] هذه قاعدة الإسلام : طلب اليسير من الأمور دائما ، واجتناب العسير ما لم يكن تكليفا كالجهاد في سبيل الله .

                                                          ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله حلق الرأس أو تقصيرها شعار الانتهاء من الإحرام ، والتحلل من تلك الشعيرة المباركة ، كما أن السلام مظهر الخروج من الصلاة ، وانتهائها ، أو قطعها عند الاضطرار إلى قطعها . وقد بين الله سبحانه أن المحرم عند الاضطرار بالإحصار ، يكون له التحلل بذبح الهدي ، وتحري اليسير دون العسير ; ولكن لا يتم التحلل ولا يسوغ الحلق أو تقصير الشعر الذي هو مظهره إلا بعد أن يبلغ الهدي محله ، ويذبح عند بلوغه محله .

                                                          و " المحل " : اسم زمان الحلول أو مكانه ; فهو يطلق على الزمان والمكان ، فيقال : بلغ الدين محله إذا حل وقت وفائه ، وبلغ الأجل الذي يستحق فيه الأداء ; ويقال : بلغ الشخص محله إذا وصل إلى المكان الذي يحل فيه .

                                                          وما المراد بالمحل في الآية ؟ أيراد به اسم الزمان ، أم يراد به اسم المكان ؟ لا شك أن اللفظ يحتملهما ، فيحتمل الزمان والمكان ، وإن كان في المكان أظهر ، وأقرب ورودا للخاطر ; ولذلك كان لا بد من السنة لمعرفة المراد يقينا ، أو أن يستبين ذلك من آيات أخر ; وقد قال الحنفية : إن المحل هو اسم مكان يراد به البيت الحرام ، وقد تبين ذلك بالقرآن ، فقد قال تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق والقرآن يفسر بعضه بعضا ; وعلى ذلك لا يصح للمحصر أن يحلق ويتحلل ، حتى يصل الهدي الذي يرسله إلى البيت العتيق ويذبح ; وقد تأيد ذلك بآية أخرى ، وهي قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة ففيها التصريح بأن الهدي في الكعبة . وقد قال الجمهور إن محل الهدي للمحصر هو المكان الذي كان فيه الإحصار ، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ; فإن المسور بن مخرمة يروي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما منع من البيت الحرام في تلك السنة وعقد الصلح قال لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " ، فوالله ما قام رجل منهم ، حتى قال ذلك [ ص: 607 ] ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة ، فقالت له : يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك ; ففعل ; فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا " .

                                                          فهذا يدل على أن محل الهدي للمحصر هو حيث الإحصار ; وإنه إذا كان ممنوعا فإن الهدي قد يمنع أيضا . وقد أجاب الحنفية عن ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في الحرم لا في الحل ، فهو كان في محله ; لأنه أحصر في طرف الحديبية القريب من مكة وهو من الحرم .

                                                          ولا شك أن رأي جمهور الفقهاء يتفق مع السنة النبوية ، وفيه تسهيل على المحصرين ، والمناسب لحالهم هو التيسير لا التصعيب . ولا شك أن ذبحهم في المكان الذي أحصروا فيه أيسر كلفة ; والصدقة لا يتعين مكانها في الضيق ، ولكن النص الكريم حتى يبلغ الهدي محله لا ينطبق تمام الانطباق على رأي الجمهور ، إذا فسرنا المحل بالمكان ; لأن البلوغ يقتضي مسافة بين المكانين ; ولا ينطبق ذلك على مكان الحصر ، بل ينطبق على مكان يكون فيه بلوغ ; وإذا فسرنا المحل بالزمان تأتى معنى البلوغ بأن ينتظر المحصر حتى يجيء وقت الهدي وهو يوم النحر ، ويكون بالغا محله أي بالغا زمانه ; وحينئذ لا يتقيد المحصر بالمكان ، ولكن يتقيد في الذبح بالزمان ، وإن زال الإحصار قبل زمانه ، وأمكن الوصول إلى الحج في إبانه ، فقد زال موجب الذبح ، وتعين إتمام الحج .

                                                          [ ص: 608 ] ولقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله خطاب عام لكل المكلفين في هذه الشعيرة ، لا فرق بين محصر وطليق ، وذي عذر وغيره ; فهو بيان لوقت التحلل من الإحرام بشكل عام ، وبيان لمكان الذبح بشكل عام وهو الكعبة ; وإن لذلك الكلام وجاهته واستقامته ; وهو تخريج يعاضد رأي الجمهور ، لأن الكلام يكون في مكان الذبح العام ، لا في الإحصار ، ومكان الذبح في الإحصار علم من السنة الصحيحة في الحديبية .

                                                          وقبل أن نترك الكلام في المحصرين ينبغي أن نبين مذهب الحنفية وغيرهم في قضاء الحج أو العمرة إذا أحصروا ، فقد قال مالك والشافعي : إذا تحلل بالهدي فليس عليه قضاء إلا أن يكون الإحصار في الحجة الأولى ، لأن الذبح قد أحله من إحرامه فلا قضاء عليه .

                                                          وقال الحنفية : إن عليه عمرة وقضاء ما أحرم به من الحج ، فإن كان محرما بحج نفلا كان عليه عمرة ، وعليه قضاء حجه ، لأن القاعدة عندهم أنه إذا شرع في نفل ولم يتمه وجب عليه أن يعيده ، لقوله تعالى : ولا تبطلوا أعمالكم

                                                          وإذا كان محرما بعمرة قضاها عمرة ; لما تقدم ، ولقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله فإن ذلك النص بعمومه يشمل حال من يشرع في حج أو عمرة ، ولم يتمهما اختيارا أو اضطرارا .

                                                          فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك بعد أن بين سبحانه أن مظهر الانتهاء من الإحرام هو الحلق أو تقصير الشعر ، وتبين مما تقدم أن الحلق غير جائز في مدة الإحرام ، أخذ سبحانه يبين حكم ما إذا تعذر أو تعسر على الشخص أن يستمر من غير حلق بأن اضطر إليه لمرض في جسمه أو رأسه استوجب الحلق ليدفع الضرر به ، أو كان برأسه هوام تؤذيه وتجعل غيره يتقزز منه ، وقد يصير به الشخص مصدر أذى لغيره ، أو عدوى ، كما هو مؤذ لنفسه ، ففي هذه الأحوال يحل له الحلق ، ولا يحل له سواه ، لأنه لا يتحلل بذلك من الإحرام ، بل يرخص له في بعض محرماته ليدفع الضر عن نفسه وغيره ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ; فالكلام في الآية السابقة في الانتهاء من الإحرام قبل أداء الأركان لعذر [ ص: 609 ] قاهر ، والكلام هنا في الترخيص من بعض المحرمات من غير إنهاء الإحرام دفعا للأذى من غير قهر.

                                                          والكلام السابق كان في الأمور التي تمنع من الوصول إلى البيت الحرام ; أما الكلام هنا فهو قد يقع قبل الوصول إلى البيت الحرام أو بعده .

                                                          والترخيص في الحلق له فدية ، وهي صوم ، أو صدقة ، أو نسك . والفدية هي العوض عن شيء عظيم جليل نفيس ; ولا شك أن محرمات الحج والعمرة أمور لها جلالها وخطرها ; لأنها مهذبات الروح والقلب ، فهي نفيسة جليلة ، وعبر سبحانه بالفدية ولم يعبر بكفارة ; لأنه لا ذنب ولا اعتداء ، حتى يكون التكفير من الإثم . والنسك جمع نسيكة وهي الذبيحة ، وتكون من النعم : الإبل والبقر والغنم ، ويستيسر ولا يستصعب كما هو الشأن في أمور الإسلام .

                                                          ولم يبين القرآن عدد أيام الصيام ، ولا عدد المساكين الذين يطعمهم ، ولا مقدار ما يتصدق به ، كما لم يبين أهذه الأنواع الثلاثة في مرتبة واحدة أيها اختار كان فيه غناء ، ولو كان قادرا على أعلاها .

                                                          وإن السنة بيان القرآن قد فسرت ذلك وبينته ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة وقد رأى الهوام تتساقط من رأسه : ( لعلك آذاك هوامك ) قال : نعم يا رسول الله قال : " احلق وصم ثلاثة أيام ، أو تصدق بفرق على ستة مساكين ، أو انسك شاة " .

                                                          وفي رواية أخرى أنه قال : ( احلق وأهد هديا ) ، فقال : ما أجد هديا ، قال : أفأطعم ستة مساكين ) ، فقال : ما أجد ، فقال : " صم ثلاثة أيام " .

                                                          [ ص: 610 ] والفرق المذكور في الرواية الأولى هو مكيال يسع ما وزنه من البر نحو ستة عشر رطلا .

                                                          والحديث بروايتيه قد بين ترتيب الأنواع الثلاثة ، فهي ليست بدرجة واحدة ; وبين مقدار الصيام ومقدار الصدقة ، والله عليم خبير .

                                                          فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة بعد أن بين سبحانه وتعالى طريق الإحلال عند الإحصار ، وطريق الإحلال الجزئي من بعض الحرمات عند المرض أو الأذى ، بين الإحلال حال الأمن ، فقال : فإذا أمنتم أي إذا زال خوفكم من العدو وعندكم فرصة الحج من عامكم هذا . والحكم الذي سيتبين من بعد يشمل حال الأمن المستمر ، ولا يقتصر على الأمن العارض بعد الإحصار فقط ; لأن الحكم إذا كان ثابتا للأمن العارض بعد الخوف ، فأولى أن يثبت للأمن المستمر الذي لا خوف معه ; أو نقول إن كلمة ( أمنتم ) المراد بها ثبوت حال الأمن سواء أكان عارضا بعد ضده أم كان حالا مستمرة ; فإن الماضي يدل في كثير من أحواله على الإخبار عن الحالات المستمرة .

                                                          والتمتع أصل معناه الانتفاع الممتد المستمر ; مأخوذ من المتوع بمعنى الامتداد والارتفاع ; والمراد هنا معنى إسلامي ، وهو الجمع بين العمرة والحج في عام واحد على أن يحرم بالعمرة أولا ثم بالحج ; فمعنى قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أي فمن أحرم بالعمرة منتفعا بعبادته ونسكه إلى أن أحرم بالحج ، فلكي يتحلل في إبان التحلل يذبح هديا . . إلى آخره . وسمي ذلك الجمع تمتعا ; لأن المحرم يجمع بين متعة الروح ومتعة الجسد ، فيحرم بالعمرة ويستمر فيها ، وتلك متعة روحية ، ويجوز أن يتحلل منها ثم يحرم بالحج ، وتلك متعة جسدية ، ثم هو يعتمر ويحج في سفر واحد ، وتلك متعة مادية ، من أجل ذلك سمي هذا تمتعا .

                                                          [ ص: 611 ] ولكي ينجلي الحكم المستفاد من الآية نقول إن الإحرام ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

                                                          1 - إفراد : وهو أن يفرد بالحج ، ولا يجمع معه العمرة في أشهر الحج من عامه ، وقد يكون الإفراد بالعمرة ; وإذا أفرد الحج لا يحرم بها في أشهر الحج ويحج من العام .

                                                          2 - قران : وهو أن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد ، أو يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، وقبل أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج .

                                                          3 - تمتع : وهو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وبعد أن ينتهي من أعمالها يحرم بالحج ; وقد يتحلل بنسك إذا لم يكن قد ساق الهدي عند إحرامه . وقد اختلف الفقهاء في أيها أفضل وأكثر مثوبة ، وأرجى لرضا الله سبحانه ؟ فبعضهم قال : إنه الإفراد ، وأولئك هم الأقلون ، وبعضهم قال : القران ، وهؤلاء هم الأكثرون ; وبعضهم قال : التمتع ، وقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة ، وفي كل منها فضل ، وأساس الخلاف هو حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنه كان إفرادا ، ولعله اختار ذلك ليكون قدوة للناس في طلب اليسير ، ولكيلا يفهم أحد أن القران أو التمتع فرض لازم ; وروي أنه كان قرانا ; وروي أنه كان تمتعا ; وقد نقل القرطبي الجمع بين الروايات المختلفة ، فقال : " من أحسن ما قيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بعمرة فقال من رآه : تمتع ، ثم أهل بحجة فقال من رآه : أفرد ، ثم قال : " لبيك بحجة وعمرة " ، فقال من سمعه : قرن .

                                                          وقبل أن نترك هذا يجب أن نقرر أمرين :

                                                          أحدهما : إن كلمة التمتع قد تطلق بمعنى يشمل القران والتمتع ، وهو المراد في هذه الآية الكريمة ، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايات التي تقول إنه تمتع ، والتي تقول إنه قرن ; والراجح أنه قرن .

                                                          [ ص: 612 ] ثانيهما : إنه روي أن عمر رضي الله عنه قد نهى الناس عن التمتع والقران ، وقد روى ذلك البخاري وغيره ; ولعله لم يفعل ذلك تحريما لما اعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء به القرآن ; بل فعل من قبيل السياسة العامة ; لأنه رأى الناس يزدحمون في موسم الحج ويمكثون أمدا طويلا لجمعهم بين العمرة والحج في أشهره ، ثم يخلو البيت من الناس طول العام ; فأمرهم - سياسة لا دينا - أن يفردوا بالحج ليعتمروا في أثناء العام ، ويكون للبيت الحرام أفئدة من الناس تهوي إليه طول العام ; ولم يوافق عمر أحد على ما رأى . والله أعلم بالصواب .

                                                          وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التحلل من الإحرام للمتمتع والقارن ، فقال : فما استيسر من الهدي أي يطلب اليسير من النعم وهو الشاة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة هذه هي العبادة التي تحل محل النسك ، وهي الصيام ، فقامت العبادة الروحية مقام العبادة المالية ; لأن كلتيهما تلتقي عند غاية واحدة ، وهي تهذيب النفس وإصلاح المجتمع ; ولقد جعل الله سبحانه الصيام على مرحلتين :

                                                          إحداهما : وهي الأقل - تكون في الحج ، وهي ثلاثة أيام ; وذلك لأن الحج مشقة ; فلكي يكون سهلا في أدائه على ذوي الفقر جعل أقل الصيام فيه ، فلا يجمع بين مشقة الصيام ومشقة الحج ، وهو سفر فيه مشقة .

                                                          [ ص: 613 ] والمرحلة الثانية : وهي الأكثر ، بعد العودة إلى أهله حيث يطمئن ويستقر ، وتذهب مشقة السفر ، فيصوم سبعة أيام .

                                                          وقد اتفق العلماء على أنه لا يصوم السبعة الأيام قبل الانتهاء من الحج ; ولكن اختلفوا أيجوز القيام بها بعد الانتهاء وقبل العودة ؟ فقال فريق : إنه لا يجوز إلا إذا رجع ، مستمسكا بحرفية النص لا يتجاوزها ، وقال بعضهم : يجوز بمجرد الانتهاء من الحج أن يصوم ; لأن التأخير إلى الرجوع إلى الأهل ترخيص وتسهيل ، فمتى سهل عليه أن يصوم صام ; ما دام ذلك بعد الحج .

                                                          ولقد قال سبحانه وتعالى : تلك عشرة كاملة ليتقرر الحكم نصا ; وليتبين أن الذي يحل محل النسك هو العشرة الكاملة لا بعضها ; ولكي لا ينسى الناس صوم السبعة الأيام إذا عادوا إلى أهلهم حاسبين أن حجهم قد تم ، بل عليهم أن يفهموا أن الحج لم يتم حتى يصوموا .

                                                          ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أي أن التمتع بنوعيه من قران يجمع فيه الحج والعمرة في إحرام ، أو تمتع يجمع به بينهما في أشهر الحج ، لمن لم يكن أهله مقيمين في مكة وما حولها ; فإن أولئك يفردون ولا يجمعون ; لأن العمرة في إمكانهم في طول العام ، وهذا ما يقرره فقهاء الحنفية .

                                                          وقال الشافعية : إن أهل مكة وما حولها يقرنون ويتمتعون كغيرهم من أهل الآفاق ، والإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام إنما هي للنسك وما يقوم مقامه ، وذلك لأن الإشارة لأقرب مذكور ; أي أن هذا الإهداء يكون على أهل الآفاق ، لا على أهل البيت الحرام ; لأنهم بواد غير ذي زرع ، كما ذكر إبراهيم عليه السلام في دعائه .

                                                          واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي كانت فيها الإشارة إلى أعمال الحج ونسكه وشعائره بالأمر بتقواه للإشارة إلى أن الاعتبار في أعمال الحج لا يكون لما تعمله الجوارح ، وما تقوم به من أفعال ، إنما العبرة في ذلك إلى أثرها في القلوب ، فإن أوجدت رحمة بالعباد ، ورهبة [ ص: 614 ] من الخلاق ، وتقوى من الله ، فقد أديت على وجهها إذ خلصت النية ، واستقامت الإرادة ; وإن لم تؤد إلى تقوى الله والرحمة بعباده فقد خالطها رياء ولم تخلص النية ، وحق العقاب ; ولذا قال سبحانه : واعلموا أن الله شديد العقاب ليلقي في نفوس الناس الرهبة من عقابه حال رجاء ثوابه ، والناس يصلحون بالثواب والعقاب ، حتى إذا علت المدارك وقويت الروح كان الثواب رضا الرحمن ; ولذا قال سبحانه بعد ثواب المؤمنين : ورضوان من الله

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية