الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) [ ص: 14 ] هذه الآيات سياق جديد في بيان ضلال جميع الأمم في عهد بعثة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام ، وغلبة الشرك عليهم في أثر بيان ضلال مشركي العرب ومن على شاكلتهم في عقائدهم وإقامة حجج الإسلام عليهم ، ووصل ذلك ببيان مسألة اعتقادية عملية من أكبر أصول الشرك وهي مسألة الذبائح لغير الله تعالى . قال عز وجل :

                          ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) هذه جملة معطوفة على ما قبلها متممة له ، فإنه بين فيما قبلها وحي شياطين الإنس والجن الذي يلقونه لغرور الناس به ، وصغي قلوب منكري الآخرة له وافتتانهم به ، وما يقابل ذلك من هداية وحي الله المفصل لكل ما يحتاج الناس إليه من أمر دينهم الذي يترتب عليه صلاح دنياهم ، فهو تعالى يقول لرسوله : لا تبتغ أنت ومن اتبعك حكما غير الذي أنزل إليك الكتاب مفصلا ، فهذا الكتاب هو الهداية التامة الكاملة ، فادع إليه الناس كافة ، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله التي بينها لك فيه ; لأنهم ضالون متبعون لوحي الشيطان ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) أي ما يتبعون في عقائدهم وآدابهم وأعمالهم إلا الظن الذي ترجحه لهم أهواؤهم ، وما هم فيها إلا يخرصون خرصا في ترجيح بعضها على بعض ، كما يخرص أهل الحرث ثمرات النخيل والأعناب وغيرها ويقدرون ما تأتي به من التمر والزبيب ، فلا شيء منها مبني على علم صحيح ولا ثابت بدلائل تنتهي إلى اليقين .

                          وهذا الحكم القطعي بضلال أكثر أهل الأرض ظاهر بما بينه به من اتباع الظن والخرص - ولا سيما في ذلك العصر - تؤيده تواريخ الأمم كلها ، فقد اتفقت على أن أهل الكتاب كانوا قد تركوا هداية أنبيائهم وضلوا ضلالا بعيدا ، وكذلك أمم الوثنية التي كانت أبعد عهدا عن هداية رسلهم ، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وهو أمي لم يكن يعلم من أحوال الأمم إلا شيئا يسيرا من شئون المجاورين لبلاد العرب خاصة .

                          ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) أي إن ربك الذي رباك وعلمك أيها الرسول بما أنزل إليك الكتاب مفصلا ، وبين لك فيه ما لم تكن تعلم من الحق ومن شئون الخلق ، وهو أعلم منك ومن سائر خلقه بمن يضل عن سبيله القويم ، وهو أعلم بالمهتدين السالكين صراطه المستقيم ، إذ الضلال ما يصد عن سبيله ويبعد السالك عنه ، والاهتداء ما يجذبه إليه ويقربه منه ، فكيف لا يكون أعلم به من نفسه وأصدق في الحكم عليه من حسه ، وهو فوق ذلك محيط بكل شيء علما .

                          ومن مباحث اللفظ أن البصريين والكوفيين من النحاة اضطربوا في إعراب قوله تعالى : ( أعلم من يضل ) لمجيئه على خلاف المعهود الشائع من اقتران معمول اسم التفضيل بالباء كقوله - تعالى - في مثل هذه الآية من سورة القلم : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) ( 68 : 7 ) [ ص: 15 ] فكان أبعد إعرابهم له عن التكلف أن الباء حذفت منه اكتفاء باقترانها بمقابله المتصل به وهو قوله : ( أعلم بالمهتدين ) ومخالفة المعهود في أساليب اللغة لا يكاد يقع في كلام بلغاء أهلها إلا لنكتة يقصدونها به ، وكلام رب البلغاء ومنطقهم باللغات أولى بذلك . والنكت منها لفظي كالاختصار والتفنن في الأسلوب ، ومنها معنوي وهو أعلى . وقد يكون من نكت مخالفة المعهود الكثير تنبيه الذهن المتأمل ، كمن يريد إيقاف سالك الطريق في مكان منه لفائدة له في الوقوف ، كما أرى الله تعالى نبيه موسى النار في الشجرة بجانب الطور فحمل أهله على المكث فيه لما علمنا من حكمة ذلك . وقد بينا هذا النوع من النكت من قبل وجعلنا منه عطف المرفوع على المنصوب في قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) ( 5 : 69 ) أي وكذا الصابئون أو والصابئون كذلك ، خص هؤلاء بإخراجهم عن نسق من قبلهم في الإعراب لأن الناس لم يكونوا يعرفون أنهم بقايا أهل كتاب وقد يكون حذف الباء في قوله : ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ) للتنبيه إلى التأمل والتفكر في كون الله تعالى أعلم بأحوالهم لأنها هي المقصودة هنا بالذات بدليل سابق الكلام ولاحقه إذ هو فيهم ، وما ذكر العلم بالمهتدين إلا لأجل التكملة والمقابلة ; ولذلك عطف على ما قبله عطف جملة لا عطف مفرد ، فتأمل . ولو جازت الإضافة هنا نحو " أفضل من حج واعتمر " . لكان الكلام احتباكا تقديره هو أعلم من يضل ومن يهتدي وهو أعلم بالضالين وبالمهتدين ، فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر ، وليس المانع من جواز الإضافة هنا كون صلة " من " فعلا مضارعا لا ماضيا كالمثال الذي أوردناه ونظائره ، بل المانع هو أن المضاف في مثل هذا الكلام من جنس المضاف إليه وهو ممتنع في الآية لأنه تعالى لا جنس له ، ولو اقترن الموصول هو بالجار فقيل : هو أعلم ممن يضل عن سبيله ، لجزمنا بالاحتباك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية