الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : والذين اتخذوا مسجدا . الآية . أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في "الدلائل"، عن ابن عباس في قوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا قال : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم، واستمدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي [ ص: 523 ] بجند من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه . فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحب أن تصلي فيه، وتدعو بالبركة . فأنزل الله : لا تقم فيه أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، خرج رجال من الأنصار؛ منهم بحزج جد عبد الله بن حنيف، ووديعة بن خذام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج : ويلك يا بحزج! ما أردت إلى ما أرى؟ قال : يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى . وهو كاذب، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يعذره، فأنزل الله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله يعني رجلا يقال له : أبو عامر . كان محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، وكانوا يرصدون إذا قدم أبو عامر أن يصلي فيه، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ولرسوله .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 524 ] وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال ذكر أن بني عمرو بن عوف ابتنوا مسجدا، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي في مسجدهم، فأتاهم فصلى فيه، فلما رأوا ذلك إخوتهم بنو غنم بن عوف حسدوهم، فقالوا : نبني نحن أيضا مسجدا كما بنى إخواننا، فنرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه، ولعل أبا عامر أن يمر بنا فيصلي فيه . فبنوا مسجدا، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي في مسجدهم، كما صلى في مسجد إخوتهم، فلما جاء الرسول قام ليأتيهم، أو هم أن يأتيهم، فأنزل الله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا إلى قوله : لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلى آخر الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : والذين اتخذوا مسجدا قال : المنافقون . وفي قوله : وإرصادا لمن حارب الله ورسوله قال : لأبي عامر الراهب .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا قال : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم بنى مسجدا بقباء، فعارضه المنافقون بآخر، ثم بعثوا إليه ليصلي فيه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، فقال : مالك لعاصم : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل على أهله، فأخذ سعفات من نار، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وخرج أهله فتفرقوا عنه، فأنزل الله في شأن المسجد وأهله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا [ ص: 525 ] إلى قوله : عليم حكيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن إسحاق ، وابن مردويه ، عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وكان من الصحابة الذين بايعوا تحت الشجرة، قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان من مسجد ضرار قد أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا : يا رسول الله، إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه . قال : إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه . فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي أحد بلعجلان، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه . فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك . فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرج يشتدان، وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه، وفيهم نزل من القرآن ما نزل : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا إلى آخر القصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : والذين اتخذوا مسجدا [ ص: 526 ] قال : هم ناس من الأنصار ابتنوا مسجدا قريبا من مسجد قباء، ومسجد قباء، بلغنا أنه أول مسجد بني في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن إسحاق قال : كان الذين بنوا اثني عشر رجلا؛ خذام بن خالد بن عبيد بن زيد، وثعلبة بن حاطب، وهزال بن أمية، ومعتب بن قشير وأبو حبيبة بن الأزعر، وعباد بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وبحزج بن عثمان، ووديعة بن ثابت .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا قال : ضاروا أهل قباء، وتفريقا بين المؤمنين قال : فإن أهل قباء كانوا يصلون في مسجد قباء كلهم، فلما بني ذلك أقصر عن مسجد قباء من كان يحضره وصلوا فيه، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى : فحلفوا ما أرادوا به إلا الخير .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية