الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع وتسعين

فمن الحوادث فيها وفاة سليمان بن عبد الملك وخلافة عمر بن عبد العزيز .

باب ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، ويكنى أبا حفص ، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

روى عن ابن عمر ، وأنس ، وعبد الله بن جعفر ، وعمر بن أبي سلمة ، والسائب بن يزيد . وأرسل الحديث عن جماعة من القدماء ، وروى عن خلق [كثير] من التابعين ، وكان عالما دينا . [ ص: 32 ]

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز ، قال: أخبرنا أبو محمد الجوهري ، قال: أخبرنا أبو عمرو بن حيويه ، قال: أخبرنا سليمان بن إسحاق الجلاب ، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال حدثنا محمد بن سعد [قال: أخبرنا أحمد بن أبي إسحاق ، قال: حدثنا إبراهيم بن عياش ، قال: حدثني ضمرة] ، قال: قال ابن شوذب:

لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوج أم عمر بن عبد العزيز قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح . فتزوج أم عمر بن عبد العزيز .

وما زال عمر يميل إلى الخير والدين مع أنه ولي الإمارة ، وكانوا يفزعون إليه في أحوالهم . ولما مرض سليمان كتب العهد لابنه أيوب ، ولم يكن بالغا ، فرده عن ذلك رجاء بن حيوة فقال له: فما ترى في ابني داود ، فقال له: هو بقسطنطينية ، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت ، قال: فمن؟ فقال: رأيك يا أمير المؤمنين ، قال: كيف ترى في عمر؟

فقال: أعلمه والله فاضلا خيرا مسلما ، فقال: لئن وليته ولم أول أحدا من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ، ولا يتركونه ، فكتب له ، وجعل من بعده يزيد ، وختم الكتاب ، وأمر أن يجمع أهل بيته ، وأمر رجاء بن حيوة أن يذهب بكتابه إليهم ، وأمرهم أن يبايعوا من فيه ، ففعلوا ، ثم دخلوا على سليمان والكتاب بيده ، فقال: هذا عهدي فاسمعوا له وأطيعوا وبايعوا .

قال رجاء: فجاءني عمر بن عبد العزيز ، فقال: يا رجاء ، قد كانت لي بسليمان حرمة وأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئا ، فإن كان فأعلمني أستعفيه ، فقال رجاء: والله لا أخبرك بحرف ، فمضى [قال:] وجاءني هشام فقال: لي حرمة وعندي شكر فأعلمني ، فقلت: لا والله لا أخبرك [بحرف] . فانصرف هشام وهو يضرب بيد على يد ويقول: فإلى من؟

[ ص: 33 ]

فلما مات سليمان جددت البيعة قبل أن يخبر بموته ، فبايعوا ، ثم قرأ الكتاب ، فلما ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: والله لا نبايعه ، فقال له رجاء: إذن والله أضرب عنقك ، قم فبايع ، فقام يجر رجليه ويسترجع إذ خرج عنه الأمر ، وعمر يسترجع إذ وقع فيه .

ثم جيء بمراكب الخلافة ، فقال عمر: قربوا لي بغلتي ، ثم أنشد يقول:


ولولا التقى ثم النهى خشية الردى لعاصيت في حب الهوى كل زاجر     قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى
له صبوة أخرى الليالي الغوابر

ثم قال: إن شاء الله ، ثم خطب فقال: يا أيها الناس ، إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ، ولا مشورة . وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فلي أمرنا باليمن والبركة . فقال: أوصيكم بتقوى الله ، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف ، فاعملوا لآخرتكم ، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ، وأصلحوا سرائركم يصلح الكريم علانيتكم ، وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد له قبل أن ينزل بكم ، وإن امرأ لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم أبا حيا لمعرق له في الموت .

ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت ، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال ثمنها في بيت المال ورد المظالم .

أخبرنا علي بن أبي عمر ، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الباقلاوي ، قال: أخبرنا عبد الملك [بن بشران ] ، قال: أخبرنا أبو بكر الآجري ، قال: حدثنا أبو عبد الله بن مخلد ، قال: حدثني سهل بن عيسى المروزي ، قال: حدثني القاسم بن محمد بن الحارث المروزي ، قال: حدثني سهل بن يحيى بن محمد ، قال: أخبرني أبي ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال:

لما بلغ الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم قالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا [ ص: 34 ] الرجل . وبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك ، فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء ، وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وسبا لمن بعدهم من أولادهم ، قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم ، فأدخلتها في بيت المال جورا وعدوانا ، ولن تترك على هذا ، فلما قرأ كتابه كتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم . من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد ، السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، أما بعد ، فإنني بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه: أما أول شأنك ابن الوليد كما زعم فأمك بنانة أمة السكون ، كانت تطوف في سوق حمص وتدخل في حوانيتها ، ثم الله أعلم بما اشتراها ذبيان من فيء المسلمين ، فأهداها لأبيك ، فحملت بك ، فبئس المحمول وبئس المولود . ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا ، أتزعم أني من الظالمين لما حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل ، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ، ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده ، فويل لك وويل لأبيك ، ما أكثر خصماءكما يوم القيامة ، وكيف ينجو أبوك من خصمائه .

وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام ، ويأخذ المال الحرام . وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر أذن له في المعازف واللهو والشرب . وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهما في خمس فيء العرب فرويدا يا ابن بنانة ، فلو التفت حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء ، فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق ، ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته بيع رقبتك وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكل فيك حقا ، والسلام علينا ولا ينال سلام الله الظالمين .

أخبرنا هبة الله بن أحمد الحريري بإسناده عن عمرو بن مهاجر قهرمان عمر بن عبد العزيز ، قال:

كان نقش خاتم عمر بن عبد العزيز "الوفاء عزيز" . [ ص: 35 ]

أخبرنا علي بن أبي عمر بإسناد له عن قبيصة ، قال: سمعت سفيان الثوري يقول:

الخلفاء خمسة: أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعمر بن عبد العزيز [رضي الله عنهم] .

أخبرنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار ، قال: أخبرنا أبو الطيب الطبري ، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا ، قال: حدثنا محمد المرزبان ، قال:

حدثنا أبو عبد الرحمن الجوهري ، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك ، قال: حدثنا الهيثم بن عدي ، عن عوانة بن الحكم ، قال :

لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه ، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم . فبينا هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة - وكان من خطباء أهل الشام - فلما رآه جرير داخلا على عمر أنشأ يقول:


يا أيها الرجل المرخي عمامته     هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا

قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئا ، ثم مر بهم عدي بن أرطاة ، فقال له جرير :


يا أيها الرجل المرخي مطيته     هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه     أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة     قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني

قال: فدخل عدي على عمر ، فقال: يا أمير المؤمنين ، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة ، قال: ويحك يا عدي ، ما لي وللشعراء ، قال: أعز الله أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتدح وأعطى ، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة ، قال:

كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه ، قال: [ ص: 36 ]

أو تروي من قوله شيئا؟ قال: نعم ، فأنشده يقول:


رأيتك يا خير البرية كلها     نشرت كتابا جاء بالحق معلما
[شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا     عن الحق لما أصبح الحق مظلما]
ونورت بالتبيان أمرا مدلسا     وأطفأت بالقرآن نارا تضرما
فمن مبلغ عني النبي محمدا     وكل امرئ يجزى بما كان قدما
أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه     وكان قديما ركنه قد تهدما
تعالى علوا فوق عرش إلهنا     وكان مكان الله أعلا وأعظما

قال: ويحك يا عدي ، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن [أبي] ربيعة ، قال: أوليس هو الذي يقول:


ثم نبهنها فهبت كعابا     طفلة ما تبين رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت     ويلتا قد عجلت يا ابن الكرام
أعلى غير موعد جئت تسري     تتخطى إلي رءوس النيام

فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه ، لا يدخل علي والله أبدا ، [من] بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب يعني الفرزدق - قال: أليس هو الذي يقول:


هما دلياني من ثمانين قامة     كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا     أحي يرجى أم مثيل نحاذره

لا يطأ والله بساطي ، فمن سواه بالباب منهم؟ قال: الأخطل ، قال: يا عدي ، هو الذي يقول:


ولست بصائم رمضان طوعا     ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيسا بكور     إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتا بعيدا     بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو     قبيل الصبح حي على الفلاح

[ ص: 37 ]


ولكني سأشربها شمولا     وأسجد عند منبلج الصباح

والله لا يدخل علي وهو كافر أبدا ، فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم الأحوص ، قال: أليس هو الذي يقول:


الله بيني وبين سيدها     يفر مني بها وأتبعه

فمن هاهنا أيضا؟ قال: جميل بن معمر ، قال: يا عدي ، هو الذي يقول:


ألا ليتنا نحيا جميعا وإن أمت     يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب     إذا قيل قد سوي عليها صفيحها

فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحا ، والله لا يدخل علي أبدا ، فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال: نعم جرير بن عطية ، قال: أما أنه الذي يقول:


طرقتك صائدة القلوب فليس ذا     حين الزيارة فارجعي بسلام

فإن كان لا بد فهو ، قال: فأذن لجرير ، فدخل وهو يقول:


إن الذي بعث النبي محمدا     جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه     حتى ارعوى فأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيرا عاجلا     والنفس مولعة بحب العاجل

فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير ، اتق الله ولا تقل إلا حقا ، فأنشأ جرير يقول :


أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت     أم قد كفاني بما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة     ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده     كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به     خبلا من الجن أو مسا من البشر
[ ص: 38 ] خليفة الله ماذا تأمرون بنا     لسنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم يؤرقني     قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا     ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا     من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدرا     كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها     فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا     بوركت يا عمر الخيران من عمر

فقال: يا جرير ، ما أرى [لك] فيما ها هنا حقا ، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع . فأعطاه من صلب ماله مائة درهم .

قال: وقد ذكر أنه قال له: ويحك يا جرير لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاثمائة درهم ، فمائة أخذها عبد الله ، ومائة أخذتها أم عبيد الله ، يا غلام أعطه المائة الباقية .

قال: فأخذها وقال: والله لهي أحب من كل ما اكتسبته .

قال: ثم خرج ، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسركم ، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويعطي الشعراء ، وإني عنه لراض ، وأنشأ يقول:


رأيت رقى الشيطان لا يستفزه     وقد كان شيطاني من الجن راقيا

وحكى ابن قتيبة عن حماد الراوية ، قال: قال لي كثير: ألا أخبرك بما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت: خبرني ، قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز ، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة له أو خلة ونحن لا نشك في أنه سيشركنا في خلافته ، فلما رفعت لنا أعلام خناصره لقينا مسلمة بن عبد الملك جائيا من عنده وهو يومئذ فتى العرب ، فسلمنا عليه ، فرد السلام ، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل [ ص: 39 ] الشعر ، قلت: ما وضح لنا حتى لقيناك . ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا ، قال: إن يكن ما تحبون وإلا فما ألبث حتى أرجع إليكم فأمنحكم ما أنتم أهله ، فلما قدم كانت رحالنا هذه بأكرم منزل وأفضل منزول عليه ، وأقمنا أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره ، فلم يأذن لنا إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فتحفظته كان ذلك رأيا ، فكان مما تحفظته من كلامه يومئذ: لكل سفر لا محالة زاد ، فتزودوا من الدنيا إلى الآخرة التقوى ، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه ، فترغبوا وترهبوا ، ولا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم ، في كلام كثير .

ثم قال: أعوذ بالله ، أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عيبتي ، وتبدو مسكنتي في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق . ثم بكى حتى ظننا أنه قاض نحبه ، وارتج المسجد بالبكاء والعويل ، فرجعت إلى أصحابي فقلت: خذوا في شرح من الشعر غير ما [كنا] نقول لعمه وآبائه ، فإن الرجل أخروي وليس بدنيوي إلى أن استأذن لنا مسلمة يوم جمعة ، فأذن لنا بعد ما أذن للعامة ، فلما دخلت سلمت ، ثم قلت: يا أمير المؤمنين ، طال الثواء وقلت الفائدة ، وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب ، فقال: يا كثير ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل أفي واحد من هؤلاء أنت؟ فقلت:

ابن سبيل منقطع [به] وأنا صاحبك ، قال: أولست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى ، [قال:] ما أرى من كان ضيفه منقطعا به ، قلت: أفتأذن لي في الإنشاد يا أمير المؤمنين؟ قال: [قل] ولا تقل إلا حقا ، فقلت: [ ص: 40 ]


وليت فلم تشتم عليا ولم تخف     بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي     أتيت فأمسى راضيا كل مسلم
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها     تراءى لك الدنيا بوجه ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة     وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما     سقتك مذوقا من سمام وعلقم
وقد كنت من أجبالها في ممنع     ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن     لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا     وآثرت ما يبقى برأي مصمم
سما لك هم في الفؤاد مؤرق     بلغت به أعلى البناء المقدم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها     مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول: أمير المؤمنين ظلمتني     بأخذ لدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كف بامرئ غير مجرم     ولا السفك منه ظالما ملء محجم

[ ص: 41 ]


فأربح بها من صفقة لمتابع     وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم

فقال لي: يا كثير ، إنك تسأل عما قلت . ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد ، فقال: قل ولا تقل إلا حقا ، فقال:


وما الشعر إلا خطبة من مؤلف     بمنطق حق أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلا الذي وافق الرضا     ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
رأيناك لم تعدل عن الحق يمنة     ولا شامة فعل الظلوم المجادل
ولكن أخذت القصد جهدك كله     تقفو مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما قد بدا لنا     ومن ذا يرد الحق من قول قائل
ومن ذا يرد السهم بعد مضائه     على فوقه إن عار من نزع نابل
ولولا الذي قد عودتنا خلائف     غطاريف كانت كالليوث البواسل
لما وخدت شهرا برجلي رسلة     تغل متون البيد بين الرواحل
فإن لم يكن للشعر عندك موضع     وإن كان مثل الدر من قول قائل
فإن لنا قربى ومحض مودة     وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عمود الشرك عن عقر دارهم     وأرسوا عمود الدين بعد التمايل
وقبلك ما أعطى هنيدة جلة     على الشعر كعبا من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره     عليه سلام بالضحى والأصائل
[ ص: 42 ] فكل الذي عددت يكفيك بعضه     ونيلك خير من بحور سوائل

فقال: يا أحوص ، إنك تسأل عما قلت . وتقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له وأمره بالغزو إلى دابق ، فخرج وهو محموم . وأمر لي بثلاثمائة درهم ، وللأحوص بمثلها ، ولنصيب بخمسين درهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية