الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم

انتقال من بيان أحوال معاملة العدو في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحل المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين . والأمر بالاستعداد لهم ; إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .

والجنوح : الميل ، وهو مشتق من جناح الطائر : لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش

جوانح قد أيقـن أن قـبـيلـه إذا ما التقى الجمعان أول غالب



[ ص: 59 ] فمعنى وإن جنحوا للسلم إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائر الجانح . وإنما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها ، للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ; لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا ، فهذا مقابل قوله : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .

واللام في قوله : " للسلم " واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ; لأن حق ( جنح ) أن يعدى بـ ( إلى ) لأنه بمعنى " مال " الذي يعدى بـ ( إلى ) فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض ، وفي الكشاف : أنه يقال جنح له وإليه .

والسلم بفتح السين وكسرها ضد الحرب . وقرأه الجمهور بالفتح ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بكسر السين وحق لفظه التذكير ، ولكنه يؤنث حملا على ضده الحرب ، وقد ورد مؤنثا في كلامهم كثيرا .

والأمر بالتوكل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - معتمدا في جميع شأنه على الله - تعالى ، ومفوضا إليه تسيير أموره ، لتكون مدة السلم مدة تقو واستعداد ، وليكفيه الله شر عدوه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عقب الأمر بالتوكل بتذكيره بأن الله السميع العليم ، أي : السميع لكلامهم في العهد ، العليم بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم . وقوله : فاجنح لها جيء بفعل ( اجنح ) لمشاكلة قوله : جنحوا .

وطريق القصر في قوله : هو السميع العليم أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم . وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله - تعالى - عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكل عليه لا على غيره . وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدو : دليل بين على أن التوكل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هو من مقدور الناس ، والتوكل فيما يخرج عن ذلك .

[ ص: 60 ] واعلم أن ضمير جمع الغائبين في قوله : وإن جنحوا للسلم وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلها ، منهم مشركون في قوله - تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، ومنهم من قيل : إنهم من أهل الكتاب ، ومنهم من ترددت فيهم أقوال المفسرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم الآية . قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير " جنحوا " عائدا إلى المشركين . أو عائدا إلى أهل الكتاب ، أو عائدا إلى الفريقين كليهما .

فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : وإن جنحوا للسلم إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، ورواه عطاء عن ابن عباس ، وقيل : عاد إلى أهل الكتاب ، قاله مجاهد .

فالذين قالوا : إن الضمير عائد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أول الأمر حين قلة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة " براءة " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية . ومن قالوا : الضمير عائد إلى أهل الكتاب ، قالوا : هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إما بإعطاء الجزية أو بالموادعة .

والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام بعد نزول آية " براءة " فهي مخصصة العموم الذي في ضمير " جنحوا " أو مبينة إجماله ، وليست من النسخ في شيء . قال أبو بكر بن العربي أما من قال إنها منسوخة بقوله : فاقتلوا المشركين فدعوى ، فإن شروط النسخ معدومة فيها كما بيناه في موضعه .

وهؤلاء قد انقضى أمرهم . وأما المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوة المسلمين ومصالحهم وأن الجمع بين الآيتين أولى : فإن دعوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين . قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوة ومنعة وعدة :

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا     وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم

[ ص: 61 ] وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضر يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه . قد صالح النبيء - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر ، ووادع الضمري ، وصالح أكيد ردومة ، وأهل نجران ، وهادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده .

أما ما هم به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من مصالحة عيينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثمار المدينة فذلك قد عدل عنه النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قال سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ ، في جماعة الأنصار : لا نعطيهم إلا السيف .

فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف . قال قتادة وعكرمة : نسخت " براءة " كل مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية