الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          99 - فصل

                          [ الملك الصالح وأهل الذمة ]

                          ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب ، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام ، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله ، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان - لثناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال .

                          وهذا الملك الصالح كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان ، ولم يكن في المباشرين أمكن منه .

                          وكان المذكور قذاة في عين الإسلام ، وبثرة في وجه الدين ، ومثالبه في الصحف مسطورة ، ومخازيه مخلدة مذكورة ، حتى بلغ من أمره أنه [ ص: 500 ] وقع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية ، وخروجه من الملة الإسلامية ، ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها .

                          وكان مجلسه معمورا برسل الفرنج والنصارى ، وهم مكرمون لديه وحوائجهم مقضية عنده ، ويحمل لهم الأدرار والضيافات ، وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم ، وإذا دخلوا لم ينصفوا في التحية ولا في الكلام .

                          فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه ، فلم يزده ذلك إلا تمردا ، فلم يمض على ذلك إلا يسير حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء ، فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى ، فبسط لسانه في ذلك وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق ، وقال من جملة كلامه : إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة ; لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحدا والله تعالى يقول : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .

                          وأول أمانتهم وعقد دينهم : بسم الأب والابن وروح القدس إله واحد ، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء وقال في قصيدة له :


                          كيف يدري الحساب من جعل الوا حد رب الورى تعالى ثلاثة

                          [ ص: 501 ] ثم قال : كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده ، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة ؟ وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان دينارا ، وأخذ لنفسه اثنين ، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربة وديانة ؟

                          وانصرف القوم ، واتفق أن كبت بالنصراني بطنته ، وظهرت خيانته فأريق دمه ، وسلط على وجوده عدمه ، وفيه يقول عمارة اليمني :


                          قل لابن دخان إذا جئته     ووجهه يندى من القرقف
                          لم تكفك الدنيا ولو أنها     أضعاف ما في سورة الزخرف
                          فاصفع قفا الذل ولو أنه     بين قفا القسيس والأسقف
                          ملكك الدهر سباب الورى     فاحلق لحاهم آمنا وانتف
                          خلا لك الديوان من ناظر     مستيقظ العزم ومن مشرف
                          فاكسب وحصل وادخر واكتنز     واسرق وخن وابطش ولا تضعف
                          وابك وقل ما صلح لي درهم     فرد وصلب وابتهل واحلف
                          واغتنم الفرصة من قبل أن     تقضي على الإنجيل والمصحف



                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية