الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام : «لا تبع ما ليس عندك » ، لما قال له : يأتيني الرجل فيطلب مني البيع ليس عندي فأبيعه منه ، ثم أذهب إلى السوق فأبتاعه ، فقال : «لا تبع ما ليس عندك » . وفي حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا تبع ما ليس عندك » .

وللناس في هذا الحديث أقوال :

قيل : المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير ، يبيعها إن ملكها ، فقال : «لا تبع ما ليس عندك » ، أي لا تبع ما لا تملكه من الأعيان . ونقل هذا التفسير عن الشافعي أنه يجوز السلم الحال ، وقد لا يكون عند المستسلف ما باعه . فحمله على الأعيان ، ليكون بيع ما في الذمة جائزا ، سواء كان حالا أو مؤجلا . [ ص: 323 ]

وقال آخرون : هذا ضعيف جدا ، فإن حكيم بن حزام ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره ، ثم ينطلق فيشتريه منه ، ولا كان الذين يأتونه يقولون : نطلب عبد فلان أو دار فلان ، وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول : أريد طعاما كذا وكذا ، أو ثوبا كذا وكذا ، وغير ذلك . فيقول : نعم أعطيك ، فيبيعه منه ، ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده . هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ، ولهذا قال : «يأتيني فيطلب مني البيع ليس عندي » ، لم يقل : يطلب مني ما هو مملوك لغيري . فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئا معينا ، كما جرت عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب ، إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك شخص بعينه ، دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه .

ولهذا صار أحمد بن حنبل وطائفة إلى القول الثاني ، فقالوا : الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده ، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده ، لكن جاءت الأحاديث في جواز السلم المؤجل ، فبقي هذا في السلم الحال .

والقول الثالث -وهو أظهر الأقوال- : إن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقا ، وإنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على تسليمه ، ويربح فيه قبل أن يملكه ويقدر على تسليمه وتضمنه . فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه ، فيلزم ذمته بشيء حال ويربح فيه ، وليس هو قادرا على إعطائه . وإذا ذهب يشتريه قد يحصل وقد لا يحصل ، فهو من نوع [ ص: 324 ] الغرور والمخاطرة ، وهو إذا كان السلم حالا وجب تسليمه عليه في الحال ، وليس هو بقادر على ذلك ، ويربح فيه على أن يملكه فيضمنه . وربما أحاله على الذي ابتاع منه ، فلا يكون قد عمل شيئا ، بل أكل المال بالباطل . وعلى هذا فالسلم الحال إذا كان المسلم إليه قادرا على الإعطاء هو جائز ، وهو كما قال الشافعي : إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز .

ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم ، لكن إذا لم يجوز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع . وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة ، وإنما سأله عن بيعه حالا ، فإنه قال : أبيعه ثم أذهب فأبتاعه ، فقال له : «لا تبع ما ليس عندك » ، فلو كان السلف الحال لا يجوز مطلقا لقال ابتداء : «لا تبع هذا » سواء كان عنده أو ليس عنده ، فإن صاحب هذا القول يقول : بيع ما في الذمة حالا لا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه ، بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينا ، لا يبيع شيئا في الذمة . فلما لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقا ، بل قال : «لا تبع ما ليس عندك » علم أنه فرق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه ، وما ليس كذلك ، وإن كان كلاهما في الذمة .

ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب .

وإذا قيل : المؤخر جائز للضرورة ، وهو بيع المفاليس ، لأن البائع [ ص: 325 ] احتاج إلى أن يبيع إلى أجل ، وليس عنده ما يبيعه الآن ، وأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه ، فلا حاجة لبيع موصوف في الذمة ، أو يبيع عينا موصوفة غائبة ، لا يبيع شيئا مطلقا ، بل هذا ممنوع ، فلا نسلم على خلاف الأصل ، بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن ، كلاهما من مصالح العالم .

التالي السابق


الخدمات العلمية