الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهار

وبيان ما أنزل الله فيه ومعنى العود الموجب للكفارة


قال تعالى : ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ) [ المجادلة : 2 - 4 ] .

ثبت في السنن والمسانيد : أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وهي التي جادلت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشتكت إلى الله ، وسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، فقالت : ( يا رسول الله ، إن أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب في ، فلما خلا سني ، ونثرت له بطني ، جعلني [ ص: 293 ] كأمه عنده ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما عندي في أمرك شيء ، فقالت : اللهم إني أشكو إليك ) وروي أنها قالت : ( إن لي صبية صغارا ، إن ضمهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلي جاعوا ، فنزل القرآن . )

وقالت عائشة : ( الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا في كسر البيت يخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز وجل : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) ) [ المجادلة : 1 ] . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ليعتق رقبة ، قالت : لا يجد ، قال : فيصوم شهرين متتابعين ، قالت : يا رسول الله ، إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : فليطعم ستين مسكينا ، قالت : ما عنده من شيء يتصدق به ، قالت : فأتي ساعتئذ بعرق من تمر ، قلت : يا رسول الله ، فإني أعينه بعرق آخر ، قال : أحسنت فأطعمي عنه ستين مسكينا ، وارجعي إلى ابن عمك )

وفي السنن أن ( سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته مدة شهر رمضان ، ثم واقعها ليلة قبل انسلاخه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنت بذاك يا سلمة " ، [ ص: 294 ] قال : قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله ، فاحكم في بما أراك الله ، قال : " حرر رقبة " قلت : والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها ، وضربت صفحة رقبتي ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا في الصيام ، قال : فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا ، قلت : والذي بعثك بالحق ، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام ، قال فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك ، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ، وكل أنت وعيالك بقيتها ، قال : فرحت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة وحسن الرأي ، وقد أمر لي بصدقتكم )

وفي " جامع الترمذي " عن ابن عباس ، أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ، قال : ( وما حملك على ذلك ، يرحمك الله ، قال رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ) قال : هذا حديث حسن غريب صحيح .

[ ص: 295 ] وفيه أيضا : عن سلمة بن صخر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، فقال : ( كفارة واحدة ) وقال : حسن غريب انتهى ، وفيه انقطاع بين سليمان بن يسار وسلمة بن صخر .

وفي مسند البزار ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : ( أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني ظاهرت من امرأتي ، ثم وقعت عليها قبل أن أكفر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألم يقل الله ( من قبل أن يتماسا )؟ فقال : أعجبتني ، فقال : أمسك عنها حتى تكفر ) قال البزار : لا نعلمه يروى بإسناد أحسن من هذا ، على أن إسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه ، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم .

فتضمنت هذه الأحكام أمورا .

أحدها : إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية ، وفي صدر الإسلام من كون الظهار طلاقا ، ولو صرح بنيته له ، فقال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق ، لم يكن طلاقا ، وكان ظهارا ، وهذا بالاتفاق ، إلا ما عساه من خلاف شاذ ، وقد نص عليه أحمد والشافعي وغيرهما . قال الشافعي : ولو ظاهر يريد طلاقا كان ظهارا ، أو طلق يريد ظهارا كان طلاقا ، هذا لفظه ، فلا يجوز أن ينسب إلى مذهبه خلاف هذا ، ونص أحمد : على أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق ، أنه ظهار ولا تطلق به ، وهذا لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنسخ ، فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ .

وأيضا فأوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق على ما كان عليه ، وأجرى عليه حكم الظهار دون الطلاق .

وأيضا فإنه صريح في حكمه ، فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي [ ص: 296 ] أبطله عز وجل بشرعه ، وقضاء الله أحق ، وحكم الله أوجب .

ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه ؛ لأنه كما أخبر الله عنه منكر من القول وزور ، وكلاهما حرام ، والفرق بين جهة كونه منكرا ، وجهة كونه زورا ، أن قوله : أنت علي كظهر أمي يتضمن إخباره عنها بذلك وإنشاءه تحريمها ، فهو يتضمن إخبارا وإنشاء ، فهو خبر زور ، وإنشاء منكر ، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت ، والمنكر خلاف المعروف ، وختم سبحانه الآية بقوله تعالى : ( وإن الله لعفو غفور ) وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لآخذ به .

ومنها : أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار ، وإنما تجب بالعود ، وهذا قول الجمهور ، وروى الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن طاووس قال : إذا تكلم بالظهار فقد لزمه ، وهذه رواية ابن أبي نجيح عنه ، وروى معمر ، عن طاووس ، عن أبيه في قوله تعالى : ( ثم يعودون لما قالوا ) قال : جعلها عليه كظهر أمه ، ثم يعود فيطؤها فتحرير رقبة .

وحكى الناس عن مجاهد : أنه تجب الكفارة بنفس الظهار ، وحكاه ابن حزم عن الثوري ، وعثمان البتي ، وهؤلاء لم يخف عليهم أن العود شرط في الكفارة ، ولكن العود عندهم هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر ، كقوله تعالى في جزاء الصيد : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) [ المائدة : 95 ] أي عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه ، ولهذا قال : ( عفا الله عما سلف ) [المائدة : 95] قالوا : ولأن الكفارة إنما وجبت في مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور ، وهو الظهار دون الوطء ، أو العزم عليه ، قالوا : ولأن الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العود هو فعل المنهي عنه ، كما قال تعالى : ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) [ الإسراء : 8 ] أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة ؟ فالعود هنا نفس فعل المنهي عنه .

قالوا : ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فنقل حكمه من الطلاق [ ص: 297 ] إلى الظهار ، ورتب عليه التكفير ، وتحريم الزوجة حتى يكفر ، وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتبرا بلفظه كالطلاق .

ونازعهم الجمهور في ذلك ، وقالوا : إن العود أمر وراء مجرد لفظ الظهار ، ولا يصح حمل الآية على العود إليه في الإسلام ؛ لثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام ، ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبلا ، فقال : يظاهرون ، وإذا كان هذا بيانا لحكم ظهار الإسلام ، فهو عندكم نفس العود ، فكيف يقول بعده : ثم يعودون ، وأن معنى هذا العود غير الظهار عندكم ؟

الثاني : أنه لو كان العود ما ذكرتم ، وكان المضارع بمعنى الماضي ، كان تقديره : والذين ظاهروا من نسائهم ثم عادوا في الإسلام ، ولما وجبت الكفارة إلا على من تظاهر في الجاهلية ، ثم عاد في الإسلام ، فمن أين توجبونها على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد ؟ فإن هنا أمرين : ظهار سابق ، وعود إليه ، وذلك يبطل حكم الظهار الآن بالكلية ، إلا أن تجعلوا " يظاهرون " لفرقة ، ويعودون لفرقة ، ولفظ المضارع نائبا عن لفظ الماضي ، وذلك مخالف للنظم ، ومخرج عن الفصاحة .

الثالث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أوس بن الصامت ، وسلمة بن صخر بالكفارة ، ولم يسألهما : هل تظاهرا في الجاهلية أم لا ؟ فإن قلتم : ولم يسألهما عن العود الذي تجعلونه شرطا ، ولو كان شرطا لسألهما عنه .

قيل : أما من يجعل العود نفس الإمساك بعد الظهار زمنا ، يمكن وقوع الطلاق فيه ، فهذا جار على قوله وهو نفس حجته ، ومن جعل العود هو الوطء والعزم ، قال : سياق القصة بين في أن المتظاهرين كان قصدهم الوطء ، وإنما أمسكوا له ، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى .

وأما كون الظهار منكرا من القول وزورا فنعم هو كذلك ولكن [ ص: 298 ] الله عز وجل إنما أوجب الكفارة في هذا المنكر والزور بأمرين : به ، وبالعود ، كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية