الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما

أكد هذا اللفظ أمر التوبة، والمعنى: ومن تاب فإنه قد تمسك بأمر وثيق، وهذا كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر: لقد قلت يا فلان قولا. وكذلك الآية معناها مدح المتاب، كأنه قال: فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما. ثم استمرت الآيات في صفة عباد الله تبارك وتعالى- المؤمنين بأن نفى عنهم شهادة الزور.

و "يشهدون" في هذه الآية ظاهر معناها: يشاهدون ويحضرون. و "الزور": كل باطل زور وزخرف، فأعظمه الشرك، وبه فسر الضحاك ، وابن زيد ، ومنه الغناء، وبه فسر مجاهد ، ومنه الكذب، وبه فسر ابن جريج ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ومحمد بن علي : المعنى: لا يشهدون الزور، فهي من الشهادة لا من المشاهدة، و "الزور": الكذب.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

والشاهد بالزور -حاضره ومؤديه- فجرة، فالمعنى الأول أعم، لكن المعنى الثاني أغرق في المعاصي وأنكى.

و "اللغو": كل سقط من فعل أو قول، ويدخل فيه الغناء واللهو وغير ذلك مما قاربه، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين، وذكر النساء وغير ذلك من [ ص: 463 ] المنكر، و "كراما" معناه: معرضين مستخفين يتجافون عن ذلك، ويصبرون على الإيذاء منه، وروي أن عبد الله بن مسعود سمع غناء فأسرع في مشيه وذهب، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد أصبح ابن أم عبد كريما ، وقرأ الآية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وأما إذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغيره، وحدود التغيير معروفة.

وقوله تعالى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم ، يريد: ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم، وقوله: لم يخروا عليها صما وعميانا يحتمل تأويلين: أحدهما أن المعنى: لم يكن خروجهم بهذه الصفة بل يكون خروجهم سجدا وبكيا، وهذا كما تقول: لم يخرج زيد للحرب جزعا، أي: إنما خرج جريئا مقدما، أو كأن الذي يخر أصم أعمى هو المنافق أو الشاك، والتأويل الثاني، وإليه ذهب الطبري ، وهو أن يخروا عليها صما وعميانا هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك، وقرن ذلك بقولك، قعد فلان يشتمني، وقام فلان يبكي، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام، وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وكأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجدا، ولكن أصله أنه على غير ترتيب.

ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية. و "قرة العين" يحتمل أن تكون من القرار، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر; لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تبارك وتعالى، قاله ابن عباس ، [ ص: 464 ] والحسن ، وحضرمي ، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنهم كانوا في أول الإسلام يهتدي الابن، والأب كافر، والزوج، والزوجة كافرة، فكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، والحسن : "وذرياتنا"، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وطلحة ، وعيسى : "وذريتنا" بالإفراد.

وقوله تعالى: للمتقين إماما قيل: هو جمع "آم"، مثل قائم وقيام، وقيل: هو مفرد اسم جنس، أي: اجعلنا يأتم بنا المتقون، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة، وهذا هو قصد الداعي، قال إبراهيم النخعي : لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين، وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.

التالي السابق


الخدمات العلمية