الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
متى يصح تحمل الحديث أو يستحب ؟


350 - وقبلوا من مسلم تحملا في كفره كذا صبي حملا      351 - ثم روى بعد البلوغ ومنع
قوم هنا ورد كالسبطين مع [ ص: 135 ]      352 - إحضار أهل العلم للصبيان ثم
قبولهم ما حدثوا بعد الحلم      353 - وطلب الحديث في العشرين
عند الزبيري أحب حين      354 - وهو الذي عليه أهل الكوفه
والعشر في البصرة كالمألوفه      355 - وفي الثلاثين لأهل الشأم
وينبغي تقييده بالفهم      356 - فكتبه بالضبط ، والسماع
حيث يصح وبه نزاع      357 - فالخمس للجمهور ثم الحجه
قصة محمود وعقل المجه      358 - وهو ابن خمسة وقيل أربعه
وليس فيه سنة متبعه      359 - بل الصواب فهمه الخطابا
مميزا ورده الجوابا      360 - وقيل لابن حنبل فرجل
قال لخمس عشرة التحمل      361 - يجوز لا في دونها فغلطه
قال إذا عقله وضبطه      362 - وقيل من بين الحمار والبقر
فرق سامع ، ومن لا فحضر      363 - قال به الحمال وابن المقري
سمع لابن أربع ذي ذكر

[ متى يصح تحمل الحديث أو يستحب ] : أي : هل يصح حين الكفر والصبا ، وهل يستحب له وقت مخصوص ، وله مناسبة بباب من تقبل روايته ، ولكن كان تأخيره تلو ثاني أقسام التحمل أنسب ، [ كما ذكر في ثالثها الإجازة للكافر والطفل ونحوهما ] .

( وقبلوا ) أي : أهل هذا الشأن ، الرواية ( من مسلم ) مستكمل الشروط ( تحملا ) الحديث ( في ) حال ( كفره ) ، ثم أداه بعد إسلامه بالاتفاق ، وإن قال ابن السبكي في شرح المنهاج : إنه الصحيح ; لعدم اشتراطهم كمال الأهلية حين التحمل ، محتجين [ ص: 136 ] بأن جبير بن مطعم رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر قبل أن يسلم ، فسمعه حينئذ يقرأ في المغرب بالطور ، قال جبير : " وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي .

وفي لفظ : " فأخذني من قراءته الكرب " ، وفي آخر : " فكأنما صدع قلبي حين سمعت القرآن " ، وكان ذلك سببا لإسلامه ، ثم أدى هذه السنة بعد إسلامه ، وحملت عنه .

وكذلك رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة قبل الهجرة ، ونحو تحديث أبي سفيان بقصة هرقل التي كانت قبل إسلامه . بل عندنا لو تحمل الكافر والصبي شهادة ، ثم أدياها بعد زوال المانع قبل أيضا ، سواء سبق ردهما في تلك الحالة أم لا . نعم ، الكافر المسر كفره لا تقبل منه إذا أعادها في الأصح ; كالفاسق غير المعلن .

قال الخطيب : وإذا كان هذا جائزا في الشهادة فهو في الرواية أولى ; لأن الرواية أوسع في الحكم من الشهادة ، مع أنه قد ثبتت روايات كثيرة لغير واحد من الصحابة كانوا حفظوها قبل إسلامهم ، وأدوها بعده - انتهى .

ومن هنا أثبت أهل الحديث في الطباق اسم من يتفق حضوره مجالس الحديث من الكفار رجاء أن يسلم ويؤدي ما سمعه ، كما وقع في زمن التقي ابن [ ص: 137 ] تيمية أن الرئيس المتطبب يوسف بن عبد السيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الإسرائيلي ، عرف بابن الديان ، سمع في حال يهوديته مع أبيه من الشمس محمد بن عبد المؤمن الصوري أشياء من الحديث ; كجزء ابن عترة ، وكتب بعض الطلبة اسمه في الطبقة في جملة السامعين ، فأنكر عليه .

وسئل ابن تيمية عن ذلك ، فأجازه ، ولم يخالفه أحد من أهل عصره ، بل ممن أثبت اسمه في الطبقة الحافظ المزي ، ويسر الله أنه أسلم بعد ، وسمي محمدا ، وأدى فسمعوا منه .

وممن سمع منه الحافظ الشمس الحسيني وغيره من أصحاب المؤلف ، ولم يتيسر له هو السماع منه ، مع أنه رآه بدمشق ، ومات في رجب سنة سبع وخمسين وسبعمائة . بل ومن الغريب قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سمعت أبا طالب ، يعني أباه ، يقول : حدثني محمد ابن أخي ، وكان والله صدوقا ، فذكر شيئا .

وروى من طريق أبي رافع عن أبي طالب نحوه ، وكلاهما عند الخطيب في رواية الأبناء عن الآباء .

ومن طريق عمرو بن سعيد ، أن أبا طالب قال : كنت بذي المجاز مع ابن أخي ، فأدركني العطش ، فذكر كلاما .

[ ص: 138 ] ومن طريق عروة بن عمرو الفقيمي عن أبي طالب : سمعت ابن أخي الأمين يقول : ( ( اشكر ترزق ، ولا تكفر فتعذب ) ) ، ولكن كل هذا لا يصح .

و ( كذا ) يقبل عندهم فاسق تحمل في حال فسقه ثم زال وأدى من باب أولى ، و ( صبي حملا ) بالبناء للمفعول في حال صغره سماعا أو حضورا ( ثم روى بعد البلوغ ) ، وكذا قبله على وجه وصفه البلقيني بالشذوذ ، قدمت حكايته في أول فصول من تقبل روايته ومن ترد .

( و ) لكن قد ( منع قوم ) القبول ( هنا ) أي : في مسألة الصبي خاصة ، فلم يقبلوا من تحمل قبل البلوغ ; لأن الصبي مظنة عدم الضبط ، وهو وجه للشافعية ، وعليه أبو منصور محمد بن المنذر بن محمد المراكشي الفقيه الشافعي .

فحكى ابن النجار في ترجمته من تأريخه أنه كان يمتنع من الرواية أشد الامتناع ، ويقول : مشايخنا سمعوا وهم صغار لا يفهمون ، وكذلك مشايخهم ، وأنا لا أرى الرواية عمن هذه سبيله .

وكذا كان ابن المبارك يتوقف في تحديث الصبي .

فروينا من طريق الحسن بن عرفة قال : قدم ابن المبارك البصرة ، فدخلت عليه وسألته أن يحدثني ، فأبى وقال : أنت صبي . فأتيت حماد بن زيد فقلت : يا أبا إسماعيل ، دخلت على ابن المبارك فأبى أن يحدثني ، فقال : يا جارية ، هاتي خفي وطيلساني ، وخرج معي يتوكأ على يدي حتى دخلنا على ابن المبارك ، فجلس معه على السرير وتحدثا ساعة ، ثم قال له حماد : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تحدث هذا [ ص: 139 ] الغلام ، فقال : يا أبا إسماعيل ، هو صبي لا يفقه ما يحمله ، فقال له حماد : يا أبا عبد الرحمن ، حدثه فلعله والله أن يكون آخر من يحدث عنك في الدنيا . فحدثه ، وكان كذلك .

ونحوه ما رواه البيهقي في الشعب من طريق أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي قال : لما رحل بي أبي إلى أبي المغيرة ، يعني عبد القدوس بن الحجاج الخولاني الحمصي ، وكان قد سمع منه أبي وأخي من قبلي ، فلما رآني أبو المغيرة قال لأبي : من هذا ؟ قال : ابني ، قال : وما تريد به ؟ قال : يسمع منك ، قال : ويفهم ؟ فقال لي أبي ، وكنا في المسجد : قم فصل ركعتين ، وارفع صوتك بالتكبير والاستفتاح بالقراءة والتسبيح في الركوع والسجود والتشهد . ففعلت .

فقال لي أبو المغيرة : أحسنت ، ثم قال لي أبي : حدثنا ، فقلت : حدثني أبي وأخي عن أبي المغيرة عن أم عبد الله ابنة خالد بن معدان عن أبيها قال : " من حق الولد على والده أن يحسن أدبه وتعليمه ، فإذا بلغ اثنتي عشرة فلا حق له " ، وقد وجب حق الوالد على ولده ، فإن هو أرضاه فليتخذه شريكا ، وإن لم يرضه فليتخذه عدوا ، فقال لي أبو المغيرة : اجلس بارك الله عليك ، ثم حدثني به وقال : قد أغناك الله عن أبيك وأخيك ، قل : حدثني أبو المغيرة .

وأعلى من هذا أن زائدة بن قدامة كان لا يحدث أحدا حتى يشهد عنده عدول أنه من أهل السنة .

[ ص: 140 ] وقال هشام بن عمار : لقيت شهاب بن خراش وأنا شاب ، فقال لي : إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك ، وإلا لم أحدثك . فقلت : ما في من هذين شيء . وكان عبد الله بن إدريس الأودي إذا لحن رجل عنده في كلامه لم يحدثه .

( ورد ) على القائلين بعدم قبول الصبي بإجماع الأئمة على قبول حديث جماعة من صغار الصحابة مما تحملوه في حال الصغر ( كالسبطين ) ، وهما الحسن والحسين ابنا ابنته صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء ، والعبادلة : ابن جعفر بن أبي طالب ، وابن الزبير ، وابن عباس ، والنعمان بن بشير ، والسائب بن يزيد ، والمسور بن مخرمة ، وأنس ومسلمة بن مخلد ، وعمر بن أبي سلمة ، ويوسف بن عبد الله بن سلام ، وأبي الطفيل وعائشة ونحوهم ، رضي الله عنهم ، من غير فرق بين ما تحملوه قبل البلوغ وبعده .

( مع إحضار أهل العلم ) خلفا وسلفا من المحدثين وغيرهم ( للصبيان ) مجالس العلم ( ثم قبولهم ) أي : العلماء أيضا ، من الصبيان ( ما حدثوا ) به من ذلك ( بعد الحلم ) أي : البلوغ . وقد رأى أبو نعيم الفضل بن دكين أبا جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي وهو يلعب مع الصبيان وقد طينوه ، وكان بينه وبين والده مودة ، فنظر إليه وقال : يا مطين ، قد آن لك أن تحضر مجلس السماع . وكان ذلك سببا لتلقيبه مطينا .

ومات عبد الرزاق وللدبري ست سنين أو سبع ، ثم روى عنه عامة كتبه ونقلها الناس عنه ، وكذا سمع القاضي أبو عمر الهاشمي السنن لأبي داود من [ ص: 141 ] اللؤلؤي وله خمس سنين ، واعتد الناس بسماعه وحملوه عنه .

وقال يعقوب الدورقي : ثنا أبو عاصم قال : ذهبت بابني إلى ابن جريج ، وسنه أقل من ثلاث سنين ، فحدثه .

وكفى ببعض هذا متمسكا في الرد فضلا عن مجموعه ، بل قيل : إن مجرد إحضار العلماء للصبيان يستلزم اعتدادهم بروايتهم بعد البلوغ ، لكنه متعقب بأنه يمكن أن يكون الحضور لأجل التمرين والبركة ، ثم إن ما تقدم من سماع الصبي هو بالنظر للصحة سواء بنفسه أو بغيره ( و ) أما ( طلب الحديث ) بنفسه وكتابته ، وكذا الرحلة فيه ، فهو ( في العشرين ) من السنين بكسر النون على لغة ، [ حسبما قاله الشارح ، مع إنكار بعض متأخري النحاة لها ] ، ومنه قول الشاعر :


وماذا تبتغي الشعراء مني     وقد جاوزت حد الأربعين

( عند ) الإمام أبي عبد الله الزبير بن أحمد ( الزبيري ) بضم الزاء مصغرا ، الشافعي ( أحب حين ) مما قبله ، [ يعني أنه وقت الاستحباب ; إذ عبارة الزبيري : " ويستحب كتب الحديث في العشرين " ، قال ] ; لأنها مجتمع العقل ، قال [ ص: 142 ] سفيان : يكمل عقل الغلام لعشرين . والفهم ، كما قال ابن نفيس : في ذلك الوقت أكمل مما قبله .

قال الزبيري : وأحب أن يشتغل قبل الوصول إليه بحفظ القرآن والفرائض حتى الواجبات ، سيما وقد قال أبو عبيد بن حربويه : منعني أبي من سماع الحديث قبل أن أستظهر القرآن حفظا ، فلما حفظته قال لي : خذ المحفظة ، واذهب إلى فلان فاكتب عنه .

ونحوه قول ابن أبي حاتم : لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ، ثم كتبت الحديث . ( وهو ) أي : استحباب التقيد بهذا السن في الطلب ( الذي عليه أهل الكوفه ) ، فقد كانوا كما حكاه موسى بن إسحاق عنهم لا يخرجون أولادهم في طلب الحديث صغارا إلا عند استكمال عشرين سنة .

ونحوه حكاية موسى بن هارون الحمال عنهم ، وقال عياض : سمعت بعض شيوخ العلم يقول : الرواية من العشرين ، والدراية من الأربعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية