الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 449 ] الفصل العاشر : آداب دخول المسجد النبوي ، وفضله

          فيما يلزم من دخل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأدب سوى ما قدمناه ، وفضله ، وفضل الصلاة فيه ، وفي مسجد مكة ، وذكر قبره ، ومنبره ، وفضل سكنى المدينة ، ومكة

          قال الله - تعالى - : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه [ التوبة : 108 ] . روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي مسجد هو ؟ قال : مسجدي هذا .

          وهو قول ابن المسيب ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، ومالك بن أنس ، وغيرهم .

          وعن ابن عباس أنه مسجد قباء .

          حدثنا هشام بن أحمد الفقيه بقراءتي عليه ، قال : حدثنا الحسين بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو عمر النمري ، حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر بن داسة ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى .

          وقد تقدمت الآثار في الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المسجد .

          وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد قال : أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم .

          وقال مالك - رحمه الله - : سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صوتا في المسجد ، فدعا بصاحبه ، فقال : ممن أنت ؟ قال : رجل من ثقيف . قال : لو كنت من هاتين القريتين لأدبتك ، إن مسجدنا لا يرفع فيه الصوت .

          وقال محمد بن مسلمة : لا ينبغي لأحد أن يعتمد المسجد برفع الصوت ، ولا [ ص: 450 ] بشيء من الأذى ، وأن ينزه عما يكره .

          قال القاضي : حكى ذلك كله القاضي إسماعيل في مبسوطه ، في باب فضل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - . والعلماء كلهم متفقون على أن حكم سائر المساجد هذا الحكم .

          قال القاضي إسماعيل : وقال محمد بن مسلمة : ويكره في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجهر على المصلين فيما يخلط عليهم صلواتهم ، وليس مما يخص به المساجد رفع الصوت ، وقد كره رفع الصوت بالتلبية في مساجد الجماعات إلا المسجد الحرام ومسجدنا .

          وقال أبو هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام .

          قال القاضي : اختلف الناس في معنى هذا الاستثناء على اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة ، فذهب مالك في رواية أشهب عنه ، وقاله ابن نافع صاحبه ، وجماعة أصحابه إلى أن معنى الحديث أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الصلاة فيه بدون الألف .

          واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه ، فتأتي فضيلة مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتسعمائة ، وعلى غيره بألف .

          وهذا مبني على تفضيل المدينة على مكة على ما قدمناه ، وهو قول عمر بن الخطاب ، ومالك ، وأكثر المدنيين .

          وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة ، وهو قول عطاء ، وابن وهب ، وابن حبيب [ ص: 451 ] من أصحاب مالك ، وحكاه الباجي عن الشافعي ، وحملوا الاستثناء في الحديث المتقدم على ظاهره ، وأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل ، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث أبي هريرة ، وفيه : وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة .

          وروى قتادة مثله ، فيأتي فضل الصلاة في المسجد الحرام على هذا على الصلاة في سائر المساجد بمائة ألف .

          ولا خلاف أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض .

          قال القاضي أبو الوليد الباجي : الذي يقتضيه الحديث مخالفة حكم مسجد مكة لسائر المساجد ، ولا يعلم منه حكمها مع المدينة .

          وذهب الطحاوي إلى أن هذا التفضيل إنما هو في صلاة الفرض .

          وذهب مطرف من أصحابنا إلى أن ذلك في النافلة أيضا ، قال : وجمعة خير من جمعة ، ورمضان خير من رمضان .

          وقد ذكر عبد الرزاق في تفضيل رمضان بالمدينة ، وغيرها حديثا نحوه .

          وقال - صلى الله عليه وسلم - : ما بين بيتي ، ومنبري روضة من رياض الجنة .

          ومثله عن أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وزاد : ومنبري على حوضي .

          وفي حديث آخر : منبري على ترعة من ترع [ ص: 452 ] الجنة .

          قال الطبري : فيه معنيان :

          أحدهما : أن المراد بالبيت بيت سكناه على الظاهر ، مع أنه روي ما يبينه : بين حجرتي ومنبري .

          والثاني : أن البيت هنا القبر ، وهو قول زيد بن أسلم في هذا الحديث ، كما روي : بين قبري ، ومنبري . قال الطبري : وإذا كان قبره في بيته اتفقت معاني الروايات ، ولم يكن بينها خلاف ، لأن قبره في حجرته ، وهو بيته .

          وقوله : ومنبري على حوضي قيل : يحتمل أنه منبره بعينه الذي كان في الدنيا ، وهو أظهر .

          والثاني : أن يكون له هناك منبر .

          والثالث : أن قصد منبره ، والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ، ويوجب الشرب منه ، قالهالباجي .

          وقوله : روضة من رياض الجنة يحتمل معنيين :

          أحدهما : أنه موجب لذلك ، وأن الدعاء ، والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب ، كما قيل : الجنة تحت ظلال السيوف .

          والثاني : أن تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون في الجنة بعينها ، قاله الداودي .

          وروى ابن عمر ، وجماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المدينة : لا يصبر على لأوائها ، وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة .

          وقال فيمن تحمل عن المدينة : والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون .

          وقال : إنما المدينة كالكير تنفي خبثها ، وينصع طيبها .

          وقال : لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه .

          وروي [ ص: 453 ] عنه - صلى الله عليه وسلم - : من مات في أحد الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ، ولا عذاب .

          وفي طريق آخر : بعث من الآمنين يوم القيامة .

          وعن ابن عمر من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإني أشفع لمن يموت بها .

          وقال - تعالى - : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا - إلى قوله - : آمنا [ آل عمران : 96 ] .

          قال بعض المفسرين : آمنا من النار ، وقيل : كان يأمن من الطلب من أحدث حدثا خارجا عن الحرم ، ولجأ إليه في الجاهلية ، وهذا مثل قوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا [ البقرة : 125 ] على قول بعضهم .

          وحكي أن قوما أتوا سعدون الخولاني بالمنستير فأعلموه أن كتامة قتلوا رجلا ، وأضرموا عليه النار طول الليل فلم تعمل فيه شيئا ، وبقي أبيض اللون ، فقال : لعله حج ثلاث حجج ؟ قالوا : نعم . قال : حدثت أن من حج حجة أدى فرضه ، ومن حج ثانية داين ربه ، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره ، وبشره على النار .

          ولما نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قال : مرحبا بك من بيت ، ما أعظمك ، وأعظم حرمتك .

          وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - : ما من أحد يدعو الله - تعالى - عند الركن الأسود إلا استجاب الله له ، وكذلك عند الميزاب .

          وعنه - صلى الله عليه وسلم - : من صلى خلف المقام ركعتين غفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، وحشر يوم القيامة من الآمنين .

          قال الفقيه القاضي أبو الفضل : قرأت على القاضي الحافظ أبي علي ، حدثنا أبو [ ص: 454 ] العباس العذري ، قال : حدثنا أبو أسامة محمد بن أحمد بن محمد الهروي ، حدثنا الحسن بن رشيق ، سمعت أبا الحسن محمد بن الحسن بن راشد ، سمعت أبا بكر محمد بن إدريس ، سمعت الحميدي ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، قال : سمعت عمرو بن دينار قال : سمعت ابن عباس يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما دعا أحد بشيء في هذا الملتزم إلا استجيب له .

          قال ابن عباس : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا استجيب لي .

          وقال عمرو بن دينار : وأنا فما دعوت الله - تعالى - بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا عن ابن عباس إلا استجيب لي .

          وقال سفيان : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من عمرو إلا استجيب لي .

          قال الحميدي : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من سفيان إلا استجيب لي .

          وقال محمد بن إدريس ، وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحميدي إلا استجيب لي .

          وقال أبو الحسن محمد بن الحسن : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من محمد بن إدريس إلا استجيب لي .

          قال أبو أسامة : وما أذكر الحسن بن رشيق قال فيه شيئا : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من الحسن بن رشيق إلا استجيب لي من أمر الدنيا ، وأنا أرجو أن يستجاب لي من أمر الآخرة .

          قال العذري : وأنا فما دعوت الله بشيء في هذا الملتزم منذ سمعت هذا من أبي أسامة إلا استجيب لي .

          قال أبو علي : وأنا فقد دعوت الله فيه بأشياء كثيرة استجيب لي بعضها ، وأرجو من سعة فضله أن يستجيب لي بقيتها .

          قال القاضي أبو الفضل : ذكرنا نبذا من هذه النكت في هذا الفصل ، وإن لم تكن من الباب ، لتعلقها بالفصل الذي قبله حرصا على تمام الفائدة ، والله الموفق للصواب برحمته .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية