الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1100 - مسألة : وحد الإسكار الذي يحرم به الشراب وينتقل به من التحليل إلى التحريم هو أن يبدأ فيه الغليان ولو بحبابة واحدة فأكثر ، ويتولد من شربه والإكثار منه على المرء في الأغلب أن يدخل الفساد في تمييزه ، ويخلط في كلامه بما يعقل وبما لا يعقل ، ولا يجري كلامه على نظام كلام التمييز ، فإذا بلغ المرء من الناس من الإكثار من الشراب إلى هذه الحال فذلك الشراب مسكر حرام ، سكر منه كل من شربه سواء أسكر أو لم يسكر ، طبخ أو لم يطبخ ، ذهب بالطبخ أكثره أو لم يذهب ، وذلك المرء سكران ، وإذا بطلت هذه الصفة من الشراب بعد أن كانت فيه موجودة فصار لا يسكر أحد من الناس من الإكثار منه ، فهو حلال ، خل لا خمر .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فسمى الله تعالى من لا يدري ما يقول سكران ، وإن كان قد يفهم بعض الأمر .

                                                                                                                                                                                          ألا ترى أنه قد يقوم إلى الصلاة في تلك الحال فنهاه الله تعالى عن ذلك [ ص: 213 ] والمجنون مثله سواء سواء قد يفهم المجنون في حال تخليطه كثيرا ولا يخرجه ذلك عن أن يسمى مجنونا في اللغة وأحكام الشريعة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله هو العنبري - نا عبد الوهاب بن عبد المجيد هو الثقفي - عن هشام هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { انتبذ في سقائك وأوكه واشربه حلوا }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذا قولنا ; لأنه إذا بدأ يغلي حدث في طعمه تغيير عن الحلاوة ، وهو قول جماعة من السلف . كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ليس بشرب العصير وبيعه بأس حتى يغلي .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن المبارك عن هشام بن عائذ الأسدي قال : سألت إبراهيم النخعي عن العصير ؟ فقال : اشربه ما لم يتغير .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن المبارك عن عبد الملك عن عطاء في العصير قال : اشربه حتى يغلي

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية أخبرني محمد بن إسحاق عن يزيد بن قسيط قال سعيد بن المسيب : ليس بشراب العصير بأس ما لم يزبد فإذا أزبد فاجتنبوه - وهو قول أبي يوسف .

                                                                                                                                                                                          ورويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا سويد بن نصير نا عبد الله بن المبارك عن أبي يعفور السلمي عن أبي ثابت الثعلبي أنه سمع ابن عباس يقول في العصير : اشربه ما دام طريا .

                                                                                                                                                                                          وقد اختلف الناس في هذا فقال أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن في العصير هكذا ، وفي ما عدا العصير إذا تجاوز عشرة أيام فهو حرام - وهذا حد في غاية الفساد ، لا يعضده قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس ، ولا رأي سديد ، ولا قول أحد نعلمه قبلهما . [ ص: 214 ]

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة - : كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا سويد بن عبد العزيز الدمشقي نا ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : اشرب العصير ثلاثة أيام ما لم يغل .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر : اشربوا العصير ما لم يأخذه شيطانه ، قال : ومتى يأخذه شيطانه ؟ قال : بعد ثلاث ، أو قال : في ثلاث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أنا عبد الرحمن بن مينا أنه سمع القاسم بن محمد يقول : نهى أن يشرب النبيذ بعد ثلاث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم نا داود بن أبي هند عن الشعبي قال : لا بأس بشرب الخمر ما لم يغل - يعني العصير .

                                                                                                                                                                                          وحدت طائفة ذلك بيوم واحد . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن سعيد بن جبير كان يقول : إذا فضخته نهارا فأمسى فلا تقربه ، وإذا فضخته ليلا فأصبح ، فلا تقربه

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من حد ذلك بثلاث : بالخبر الذي روينا من طريق الأعمش عن ابن أبي عمر هو يحيى البهراني عن ابن عباس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة فإذا أمسى أمر به أن يهراق أو يسقى } .

                                                                                                                                                                                          واحتج من حد ذلك بيوم واحد . رويناه من طريق أبي داود نا عيسى بن محمد أبو عمير الرملي نا ضمرة عن السيباني { عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعنابهم فقال : زببوها . قلنا : ما نصنع بالزبيب ؟ قال : انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم وانبذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلل فإنه إذا تأخر عن عصيره صار خلا } .

                                                                                                                                                                                          هذا السيباني بالسين غير منقوطة هو يحيى بن أبي عمرو - ومن طريق أبي داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن أمه عائشة أم المؤمنين قالت : { كان ينبذ لرسول [ ص: 215 ] الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكأ أعلاه وله عزلاء ينبذ غدوة فيشربه عشاء ، وينبذ عشاء فيشربه غدوة } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا الخبر ، وخبر ابن عباس صحيحان ، وليسا حدا فيما يحرم من ذلك ; لأنهما مختلفان ، وليس أحدهما بأولى من الآخر ، إنما هذا على قدر البلاد والآنية فتجد بلادا باردة لا يستحيل فيها ماء الزبيب إلى ابتداء الحلاوة إلا بعد جمعة أو أكثر ، وآنية غير ضارية كذلك ، وتجد بلادا حارة وآنية ضارية يتم فيها النبيذ من يومه ، والحكم في ذلك لقوله عليه السلام الذي ذكرنا : { واشربه حلوا وكل ما أسكر حرام } فقط .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : إذا غلى وقذف بالزبد فهو حينئذ حرام - وهذا قول بلا دليل - وقال آخرون : إذا انتهى غليانه وابتدأ بأن يقل غليانه فحينئذ يحرم .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون إذن إذا سكن غليانه فحينئذ يحرم - وهذا كله قول بلا برهان .

                                                                                                                                                                                          وأما حد سكر الإنسان فإننا روينا من طريق أحمد بن صالح أنه سئل عن السكران ؟ فقال : أنا آخذ فيه بما رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن يعلى بن منبه عن أبيه سألت عمر بن الخطاب عن حد السكران ؟ فقال : هو الذي إذا استقرئ سورة لم يقرأها ، وإذا خلطت ثوبه مع ثياب لم يخرجه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهو نحو قولنا في أن لا يدري ما يقول ، ولا يراعي تمييز ثوبه ، وقال أبو حنيفة ليس سكران إلا حتى لا يميز الأرض من السماء ، وأباح كل سكر دون هذا - فاعجبوا يرحمنا الله وإياكم ؟

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية