الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) لم يبين هنا هذا المكان [ ص: 92 ] المأمور بالإتيان منه ، المعبر عنه بلفظة " حيث " ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين :

                                                                                                                                                                                                                                      إحداهما : هي قوله هنا : فأتوا حرثكم [ 2 \ 223 ] ; لأن قوله : ( فأتوا ) أمر بالإتيان بمعنى الجماع ، وقوله : ( حرثكم ) ، يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة ، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ; لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد ، كما هو ضروري .

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية : قوله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم [ 2 \ 187 ] لأن المراد بما كتب الله لكم الولد ، على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير ، وقد نقله عن ابن عباس ومجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي ، والربيع والضحاك بن مزاحم ، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل . فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه بمعنى الجماع ، فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد ، الذي هو القبل دون غيره ، بدليل قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم [ 2 \ 187 ] ، يعني الولد .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى : أنى شئتم [ 2 \ 223 ] يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل ، سواء كانت المرأة مستلقية ، أو باركة ، أو على جنب ، أو غير ذلك ، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم .

                                                                                                                                                                                                                                      فظهر من هذا أن جابرا - رضي الله عنه - يرى أن معنى الآية : فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ، ولو كان من ورائها .

                                                                                                                                                                                                                                      والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب " طلعة الأنوار " ، بقوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق



                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : فأتوا حرثكم أنى شئتم ما نصه : وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل : أنى شئتم شامل للمسالك بحكم عمومها ، فلا حجة فيها ; إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديث صحيحة حسان [ ص: 93 ] شهيرة ، رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر صحابيا ، بمتون مختلفة ، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ، ذكرها أحمد بن حنبل في " مسنده " وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه " تحريم المحل المكروه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه " إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار " قلت : وهذا هو الحق المتبع ، والصحيح في المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، وقد حذرنا من زلة العالم . وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا ، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي الله عنه ، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك ، كما ذكر النسائي ، وقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر ذلك مالك واستعظمه ، وكذب من نسب ذلك إليه ، وروى الدارمي في " مسنده " عن سعيد بن يسار أبي الحباب ، قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر . فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن خزيمة بن ثابت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن " ومثله عن علي بن طلق ، وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تلك اللوطية الصغرى " يعني إتيان المرأة في دبرها . وروي عن طاوس أنه قال : كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن ، قال ابن المنذر : وإذا ثبت الشيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغنى به عما سواه ، من القرطبي بلفظه . وقال القرطبي أيضا ما نصه : وقال مالك لابن وهب ، وعلي بن زياد ، لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك ، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل ، فقال : كذبوا علي ، كذبوا علي ، كذبوا علي ، ثم قال : ألستم قوما عربا ؟ ألم يقل الله تعالى : نساؤكم حرث لكم ، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 94 ] ومما يؤيد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن ، أن الله تعالى حرم الفرج في الحيض ; لأجل القذر العارض له ، مبينا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله : قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة ، ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة ; لأن دم الاستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض ، ولا كنجاسة الدبر ; لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح ، ومما يؤيد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر : لم يختلف العلماء في ذلك ، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق . والفقهاء كلهم على خلاف ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج ، فإن قيل : قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر ، فالجواب أن العقم لا يرد به ، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبا للرد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يرد به ، في تفسير قوله تعالى : فأتوا حرثكم فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام فاعلم أن من روي عنه جواز ذلك كابن عمر ، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين والمتأخرين ، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر ، كما يبينه حديث جابر ، والجمع واجب إذا أمكن . قال ابن كثير في تفسير قوله : فأتوا حرثكم أنى شئتم ما نصه : قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في " مسنده " : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن الحارث بن يعقوب ، عن سعيد بن يسار أبي الحباب ، قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدبر ، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وكذا رواه ابن وهب ، وقتيبة ، عن الليث .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ، ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم منه بلفظه ، وقد علمت أن قوله : أنى شئتم ، [ ص: 95 ] لا دليل فيه للوطء في الدبر ; لأنه مرتب بالفاء التعقيبية ، على قوله : نساؤكم حرث لكم ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث ، ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن ، وفي الفخذين ، والساقين ، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث ; لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعا . والكلام في الجماع ; لأن المراد بالإتيان في قوله : فأتوا حرثكم الجماع ، والفارق موجود ; لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها ، والدبر فيه القذر الدائم ، والنجس الملازم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد عرفنا من قوله : قل هو أذى فاعتزلوا النساء [ 2 \ 222 ] أن الوطء في محل الأذى لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : معنى قوله : من حيث أمركم الله ، أي : من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه ; لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، والربيع وغيرهم ، وعليه فقوله : من حيث أمركم الله يبينه : قل هو أذى فاعتزلوا النساء الآية ; لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل ، وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا ، وهذا القول مبني على أن النهي عن الشيء أمر بضده ; لأن ما نهى الله عنه فقد أمر بضده ، ولذا تصح الإحالة في قوله : أمركم الله على النهي في قوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن والخلاف في النهي عن الشيء هو أمر بضده معروف في الأصول ، وقد أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      والنهي فيه غابر الخلاف     أو أنه أمر بالائتلاف




                                                                                                                                                                                                                                      وقيل لا قطعا كما في المختصر     وهو لدى السبكي رأي ما انتصر



                                                                                                                                                                                                                                      ومراده بغابر الخلاف : هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشيء ، هل هو عين النهي عن ضده ، أو مستلزم له أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضا في النهي عن الشيء هل هو عين الأمر بضده ؟ أو ضد من أضداده إن تعددت ؟ أو مستلزم لذلك ؟ أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ وزاد في النهي قولين : أحدهما : أنه أمر بالضد اتفاقا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه ليس أمرا به قطعا ، وعزا الأخير لابن الحاجب في " مختصره " ، وأشار إلى أن السبكي في " جمع الجوامع " ذكر أنه لم ير ذلك القول لغير ابن الحاجب .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 96 ] وقال الزجاج : معنى من حيث أمركم الله أي : من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا يحل ، كما إذا كن صائمات ، أو محرمات ، أو معتكفات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد : من حيث أمركم الله يعني طاهرات غير حيض ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية