الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال أي موسى عليه السلام -وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم-: ألقوا أنتم ما تلقون أولا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال: إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر، والأمر به مثله. فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى: أول من ألقى فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم، فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا [ ص: 25 ] يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول: بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى، فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، فلما ألقوا ما ألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا سحروا أعين الناس بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس. فالآية على حد قوله جل شأنه: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى واسترهبوهم أي: أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وجاءوا بسحر عظيم في بابه.

                                                                                                                                                                                                                                      يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصي زئبقا أيضا وألقوها على الأرض، فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو: مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم، والآية تدل عليه، وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع، والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام، وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية