الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل ويجوز تبييت الكفار ، ورميهم بالمنجنيق ، وقطع المياه عنهم ، وهدم حصونهم ولا يجوز إحراق نحل ولا تغريقه ، ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه . وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان ، إحداهما : يجوز إن لم يضر بالمسلمين ، والأخرى : لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم إلا به ، أو يكونوا يفعلونه بنا ، وكذلك رميهم بالنار ، وفتح الماء ليغرقهم . وإذا ظفر بهم لم يقتل صبيا ولا امرأة ولا راهبا ولا شيخا فانيا ولا زمنا ولا أعمى إلا أن يقاتلوا ؛ فإن تترسوا بهم جاز رميهم ، ويقصد المقاتلة . وإن تترسوا بالمسلمين ، لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين ؛ فيرميهم ويقصد الكفار . ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من المسير معه ، ولا يمكنه إكراهه .

                                                                                                                          [ ص: 319 ]

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          [ ص: 319 ] فصل : ويجوز تبييت الكفار لما روى الصعب بن جثامة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم ؛ فقال : هم منهم . متفق عليه . ومعنى تبييتهم : كبسهم ليلا وقتلهم ، وهم غارون . وظاهره ، ولو قتل من لا يجوز قتله إذا لم يقصده ( ورميهم بالمنجنيق ) نص عليه لأنه - صلى الله عليه وسلم - نصب المنجنيق على أهل الطائف . رواه الترمذي مرسلا ، ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية ، ولأن الرمي به معتاد كالسهام . وظاهره مع الحاجة وعدمها . وفي " المغني " هو ظاهر كلام الإمام . ( وقطع المياه عنهم ) وكذا السابلة . ( وهدم حصونهم ) وفي " المحرر " و " الوجيز " و " الفروع " هدم عامرهم ، وهو أعم ؛ لأن القصد إضعافهم وإرهابهم ، ليجيبوا داعي الله .

                                                                                                                          وقيل : فيه روايتان . قال أحمد : لا يعجبني يلقى في نهرهم سم لعله يشرب منه مسلم ، ولا يجوز إحراق نحل بالمهملة ( ولا تغريقه ) في قول عامة العلماء لما روى مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى أبا هريرة بأشياء . قال : إذا غزوت فلا تحرق نحلا ، ولا تغرقه ، وروى مالك أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان نحوه ، ولأن قتله فساد ، فيدخل في عموم قوله تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض الآية [ البقرة : 205 ] ولأنه حيوان ذو روح فلا يجوز إهلاكه لغيظهم كنسائهم ، ومقتضاه أنه يجوز أخذ العسل ؛ لأنه مباح ، وفي أخذ كل شهده بحيث لا يترك للنحل شيء روايتان ( ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه ) أما عقر دوابهم لغير الأكل ، فلا يخلو إما أن يكون في الحرب أو في غيرها ، فإن كان في الأول [ ص: 320 ] فلا خلاف في جوازه ؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم ، وهو المطلوب ، وإن كان الثاني ، لم يجز لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان صبرا . واختار في " المغني " جواز ذلك . أو مما يستعين به على الكفار في القتال كالخيل ، وذكره في " المستوعب " بشرط عجز المسلمين عن سياقه وأخذه ؛ لأنه يحرم إيصاله إلى الكفار للبيع ، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم ، وعكسه أشهر . وفي " البلغة " يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك الحال ، وأما عقرها للأكل ، فإن لم يكن بد من ذلك ، فيباح بغير خلاف ؛ لأن الحاجة تبيح مال المعصوم ، فغيره أولى ، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج وسائر الطير ؛ فحكمه كالطعام في قول الجميع . وإن كان مما يحتاج إليه في القتال ، كالخيل ، لم يبح ذبحه للأكل في قول الجميع ، لكن قال المؤلف : أختار عقرها لغير الأكل بشرطه ، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ، لم يبح في قول الجماعة . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحته من غير حاجة كالطعام ، واستثنى في المغني من قول الخرقي : إذا أذن الإمام في ذلك ، وصرح به في " الشرح " .

                                                                                                                          فرع : إذا تعذر حمل متاع فترك ، ولم يشتر ، فللإمام أخذه لنفسه ، وإحراقه ، نص عليهما . وإلا حرم إذا جاز اغتنامه حرم إتلافه ، وإلا جاز إتلاف غير الحيوان ، وإذا قال الأمير عند العجز عن نقله : من أخذ شيئا فهو له ، أخذه ، وكذا إن لم يقل في أكثر الروايات ، ويجب إتلاف كتبهم المبدلة ، ذكره في " البلغة " .

                                                                                                                          [ ص: 321 ] ( وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان إحداهما : يجوز ) . قدمه في " المحرر " و " الفروع " وجزم به في " الوجيز " 0 وهو أظهر لقوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها الآية [ الحشر : 5 ] ولما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة فأنزل الله - تعالى - الآية ، وفيه يقول حسان بن ثابت :


                                                                                                                          وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير



                                                                                                                          متفق عليه . ( إن لم يضر بالمسلمين ) وكذا في " المحرر " و " الفروع " وزاد : ولا نفع . فدل على أن ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونه ينتفعون به ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره ، لم يجز لما فيه من الإضرار بالمسلمين ، وهو منفي شرعا ( والأخرى لا يجوز ) لحديث أبي بكر وغيره ، ولأن فيه إتلافا محضا ، فلم يجز كعقر الحيوان ( إلا أن لا يقدر عليهم إلا به ) كالذي يقرب من حصونهم ، ويمنع من قتالهم ، ويستترون به من المسلمين ، وزاد في " المغني " و " الشرح " أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق ، أو يمكن من قتال ، أو سد شق ، أو ستارة منجنيق . ( أو يكونوا يفعلونه بنا ) فنفعله بهم ، قال أحمد : لأنهم يكافئون على فعلهم . وهذا مما لا خلاف فيه . ذكره في " المغني " و " الشرح " ( وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم ) أي فيه روايتان ، إحداهما : يجوز ؛ جزم به في " الوجيز " ؛ لأن القصد مكافأتهم ، وإقامة كلمة الحق ، فإذا كان ذلك وسيلة إليه جاز كالقتل ، لكنه إن قدر عليهم بغيره ، لم يجز تحريقهم بالنار بغير خلاف . وعند العجز : [ ص: 322 ] يجوز في قول أكثر العلماء ، وكذلك القول في فتح الثقوب لتغريقهم .

                                                                                                                          والثانية : المنع ؛ أما النار فلا يعذب بها إلا الله - تعالى - وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم النساء ، والذرية مع أن عنه وجها ، لكن لو لم يقدر عليهم إلا به ، أو كانوا يفعلونه بنا ، جاز .

                                                                                                                          ( وإذا ظفر بهم لم يقتل صبيا ) لم يبلغ بغير خلاف ، لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء ، والصبيان . متفق عليه ، ولأنه يصير رقيقا بنفس السبي ؛ ففي قتله إتلاف المال فإن شك في بلوغه عول على شعر عانته . قاله في " البلغة " . ( ولا امرأة ) لما ذكرنا ، والخنثى كهي . ( ولا راهبا ) في صومعته . قال جماعة : ولا يخالط الناس لقول عمر : ستمرون على قوم في صوامع لهم ، احتبسوا أنفسهم فيها ، فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم . ( ولا شيخا فانيا ) فإنه روي عن ابن عباس في قوله : ( ولا تعتدوا ) : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير . وجوزه ابن المنذر لأمره - صلى الله عليه وسلم - به . قال ابن المنذر : لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها عموم قوله فاقتلوا المشركين [ التوبة : 5 ] ولأنه كافر لا نفع فيه ، فيقتل كالشاب .

                                                                                                                          وجوابه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله . رواه أبو داود ، ولأنه ليس من أهل القتال أشبه المرأة ، ويحمل ما روي عن قتل المقاتلة الذين فيهم قوة مع أنه عام ، وخبرنا خاص بالهرم فيقدم . ( ولا زمنا ولا أعمى ) كالشيخ الفاني لاشتراكهم في عدم النكاية . زاد في " المغني " و " الشرح " : وعبد وفلاح . وفي " الإرشاد " : وحبر ، لا رأي لهم ، فمن كان من هؤلاء ذا رأي ، وخصه في " الشرح " بالرجال ، وفيه [ ص: 323 ] شيء ، جاز ؛ لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين ، وهو شيخ لا قتال فيه لأجل استعانتهم برأيه ، فلم ينكر - صلى الله عليه وسلم - قتله ، ولأن الرأي من أعظم المعونة على الحرب ، وربما كان أبلغ في القتال . قال المتنبي :


                                                                                                                          الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول ، وهي المحل الثاني
                                                                                                                          فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان

                                                                                                                          .

                                                                                                                          ( إلا أن يقاتلوا ) فيجوز قتلهم بغير خلاف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة ، وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأة مقتولة يوم الخندق فقال : من قتل هذه ؛ فقال رجل : أنا ، نازعتني قائم سيفي ، فسكت . ولأنه لو لم يجز لأدى إلى تلف قاتله ، زاد في " الفروع " وغيره : أو يحرضوا عليه ، وذكر في " المغني " و " الشرح " أن المرأة إذا انكشفت للمسلمين ، وشتمتهم رميت قصدا . وظاهر نص الإمام والأصحاب خلافه . ويتوجه أن حكم غيرها ممن منعنا قتله كهي .

                                                                                                                          ( فإن تترسوا بهم ) أي : بمن لا يجوز قتله ( جاز رميهم ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - رماهم بالمنجنيق ، وفيهم النساء والصبيان ، ولأن كف المسلمين عنهم حينئذ يفضي إلى تعطيل الجهاد ، وسواء كانت الحرب قائمة أو لا ( ويقصد المقاتلة ) لأنه هو المقصود .

                                                                                                                          ( وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم ) كأن تكون الحرب غير قائمة ، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه ، أو للأمن من شرهم ( إلا أن يخاف على المسلمين ) مثل كون الحرب قائمة أو لم يقدر عليهم إلا بالرمي ( فيرميهم ) ، نص عليه ، للضرورة .

                                                                                                                          [ ص: 324 ] ( ويقصد الكفار ) بالرمي لأنهم هم المقصود بالذات ، فلو لم يخف على المسلمين ، لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي فظاهر كلامه لا يجوز رميهم ، وقاله الأوزاعي لقوله تعالى : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية [ الفتح : 25 ] قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق ، وجوزه القاضي حال قيام الحرب ؛ لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد ، فعلى هذا لو قتل مسلما فعليه الكفارة ، وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان . وفي " عيون المسائل " : يجب الرمي ويكفر ولا دية .

                                                                                                                          فرع : إذا نازل المسلمون العدو ، فقالوا : ارحلوا عنا وإلا قتلنا أسراكم ، قال أحمد : فيرحلوا عنهم . ( ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله ) على الأصح ( حتى يأتي به الإمام ) فيرى فيه رأيه ؛ لأن الخيرة في أمر الأسير إليه .

                                                                                                                          والثانية : يجوز كما لو قتله ( إلا أن يمتنع من المسير معه ) فله إكراهه بالضرب وغيره ، فإن لم يمكنه ، وهو المراد بقوله ( ولا يمكنه إكراهه ) فإنه حينئذ له قتله ، فإن امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض ، فله قتله . وعن الوقف في المريض فيه وجهان : أصحهما الجواز ؛ لأن تركه حيا ضرر على المسلمين ، ونقل أبو طالب : لا يخليه ولا يقتله . ويحرم قتل أسير غيره ، ولا شيء عليه ، نص عليه ، واختار الآجري جواز قتله لمصلحة كقتل بلال أمية بن خلف أسير عبد الرحمن بن عوف وأعانه عليه الأنصار . فعلى المذهب لو خالف ، وفعل ، فإن كان المقتول رجلا ، فلا شيء عليه ، فإن كان امرأة ، أو صبيا ، عاقبه الأمير ، وغرم ثمنه غنيمة ؛ لأنه صار رقيقا بنفس السبي .




                                                                                                                          الخدمات العلمية