الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 335 ] باب ما يلزم الإمام والجيش يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال ، فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول ويمنع المخذل . . والمرجف والنساء إلا طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى . ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة إليه ويرفق بهم في المسير ، ويعد لهم الزاد ، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر ويعرف عليهم العرفاء ويعقد لهم الألوية ، ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب ، ويتخير لهم المنازل ويتتبع مكامنها ، فيحفظها ، ويبث العيون على العدو حتى لا يخفى عليه أمرهم ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي ، ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل ، ويشاور ذوي الرأي ، ويصف جيشه ، ويجعل في كل جنبة كفئا ، ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب ما يلزم الإمام والجيش . يلزم كل واحد إخلاص النية لله - تعالى - في الطاعات ، ويجتهد في ذلك ، ويستحب أن يدعو سرا بحضور قلب . قال أبو داود : باب ما يدعى عند اللقاء . ثم روى بإسناد جيد عن أنس قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قال : اللهم أنت عضدي ، ونصيري بك أحول ، وبك أصول ، وبك أقاتل وكان جماعة منهم الشيخ تقي الدين يقوله عند قصد مجلس علم .

                                                                                                                          ( يلزم الإمام ) وقيل : يستحب ( عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال ) لأن ذلك من مصالح الجيش فلزمه فعله كبقية المصالح ، فيختار من الرجال ما فيه غنى ، ومنفعة للحرب ، ومناصحة ، ومن الخيل ما فيه قوة ، وصبر على الحرب ، ويمكن الانتفاع به في الركوب وحمل الأثقال . ( فما لا يصلح للحرب ) كالفرس إذا كان حطما ، وهو الكسير أو قحما ، وهو الكبير ، أو ضرعا وهو الصغير أو هزيلا . وكالرجل إذا كان زمنا أو أشل أو مريضا . ( يمنعه من الدخول ) لئلا ينقطع في دار الحرب ، ولأنه يكون كلا على الجيش ، ومضيقا عليهم ، وربما كان سببا للهزيمة . ( ويمنع المخذل ) وهو الذي يفند الناس عن الغزو ، ويزهدهم في الخروج إليه ( والمرجف ) وهو الذي يحدث بقوة الكفار وضعفنا ، لقوله تعالى : ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم الآية [ التوبة : 46 ، 47 ] وكذا يمنع مكاتب بأخبارنا ، ورام بيننا بالفتن ، ومعروف بنفاق وزندقة ؛ لأن هؤلاء مضرة على المسلمين فلزم الإمام منعهم ، إزالة للضرر .

                                                                                                                          [ ص: 336 ] وظاهر كلامهم ولو دعت الضرورة إليهم في الأصح ، وكذا يمنع صبي .

                                                                                                                          وعبارة " المغني " و " الكافي " و " البلغة " طفل . وفي " الشرح " يجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان ؛ لأن فيهم منفعة ، ومعونة ( والنساء ) للافتتان بهن مع أنهن لسن من أهل القتال ، لاستيلاء الخوف والجبن عليهن ، ولأنه لا يؤمن ظفر العدو بهن ، فيحلون منهن ما حرم الله تعالى .

                                                                                                                          واستثنى بعضهم امرأة أمير الجيش لفعله - صلى الله عليه وسلم - ( إلا طاعنة في السن ) أي : عجوزا ( لسقي الماء ومعالجة الجرحى ) أي : للمصلحة لقول الربيع بنت معوذ : كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي الماء ، ونخدمهم ، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة . رواه البخاري . وعن أنس معناه . رواه مسلم ؛ لأن الرجال يشتغلون بالحرب عن ذلك ، فيكون معونة للمسلمين ، وتوفيرا للمقاتلة . ونهي النساء عن ذلك للتحريم كما هو ظاهر " الخرقي " و " المحرر " وصرح في " المغني " و " الشرح " بالكراهة .

                                                                                                                          ( ولا يستعين بمشرك ) لما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له : تؤمن بالله ورسوله ؛ قال : لا ، قال : فارجع فلن أستعين بمشرك . متفق عليه . ولأن الكافر لا يؤمن مكرها ، وغائلته لخبث طويته ، والحرب تقتضي المناصحة ، والكافر ليس من أهلها إلا ( عند الحاجة إليه ) كذا ذكره جماعة . لما روى الزهري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بناس من المشركين في حربه . رواه سعيد . ويروى أيضا أن صفوان بن أمية شهد حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا حصل التوفيق بين الأدلة ، وقدم في " المحرر " [ ص: 337 ] و " الفروع " أنه لا يستعان بهم إلا لضرورة ، مثل كون الكفار أكثر عددا ويخاف منهم ، وعنه : يجوز مع حسن رأي في المسلمين . جزم به في " الشرح " وزاد آخرون : وقوته بهم بالعد . وفي " الواضح " روايتان : الجواز ، وعدمه بلا ضرورة ، وبناهما على الإسهام له ، ورده في " الفروع " واختار أنه يكره الاستعانة بهم إلا للضرورة ، وأطلق أبو الحسن وغيره أن الرواية لا تختلف أنه لا يستعان بهم ، ولا يعاونون . وأخذ القاضي من تحريم الاستعانة تحريمها في العمالة والكتابة . قال الشيخ تقي الدين : من تولى منهم ديوانا للمسلمين انتقض عهده ، وفي " الرعاية " : يكره إلا لضرورة .

                                                                                                                          فرع : تحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لأنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة بخلاف اليهود نص على ذلك ( ويرفق بهم في المسير ) فيسير بهم سير أضعفهم ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - أمير القوم أقطفهم أي : أقلهم سيرا ، ولئلا ينقطع منهم أحد ، أو يشق عليهم ، فإن دعت الحاجة إلى الجد فيه ، جاز ، نقل ابن منصور : أكره السير الشديد إلا لأمر يحدث ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جد حين بلغه قول عبد الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] . ليشغل الناس عن الخوض فيه . ( ويعد لهم الزاد ) لأنه لا بد لهم منه ، وبه قوامهم ، وربما طال سفرهم فيهلكون حيث لا زاد لهم . ( ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر ) فيقول : أنتم أكثر عددا ، وأشد أبدانا ، وأقوى قلوبا ، ونحو ذلك ؛ لأنه مما تستعين به النفوس على المصابرة ، ويبعثها على القتال لطمعها في العدو ( ويعرف عليهم العرفاء ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا ، ولأنه ينظر في حالهم ، ويتفقدهم ، وهو أقرب أيضا لجمعهم [ ص: 338 ] وقد ورد " العرافة حق " ؛ لأن فيها مصلحة الناس ، وأما قوله : " العرفاء في النار " فتحذير للتعرض للرياسة لما فيه من الفتنة ، ولأنه إذا لم يقم بحقها استحق العقوبة ( ويعقد لهم الألوية ) وهي المطارف البيض ، وقال صاحب المطالع اللواء : راية لا يحملها إلا صاحب جيش العرب ، أو صاحب دعوة الجيش . وهي أعلام مربعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - للعباس حين أسلم أبو سفيان احتبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال : فحبسته حيث أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومرت به القبائل على راياتها . ولأن الملائكة إذا نزلت بالنصر ؛ نزلت مسومة بها ، نقله حنبل . وظاهره أنها تكون بأي لون شاء ، وصرح به في " المحرر " لاختلاف الروايات ، وفي " الفروع " يستحب ألوية بيض ، وفي " الشرح " كالمحرر ، وزاد : يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم .

                                                                                                                          ( ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به ) عند الحرب لما روى سلمة قال : غزونا مع أبي بكر زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شعارنا : أمت أمت " . رواه أحمد . وقد ورد أيضا " حم لا ينصرون " ولأن الإنسان ربما احتاج إلى نصرة صاحبه ، وربما يهتدي بها إذا ضل ، قاله في " الشرح " أو لئلا يقع بعضهم على بعض . ( وليتخير لهم المنازل ) أي : أصلحها كالخصبة ؛ لأنها أرفق بهم ، وهو من مصلحتهم ( ويتتبع مكامنها ) وهي جمع مكمن ، وهو المكان الذي يختفي به العدو ( فيحفظها ) ليأمن هجوم العدو عليهم . ( ويبث العيون على العدو ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - بعث الزبير يوم الأحزاب ، وحذيفة بن اليمان في غزاة الخندق في أخرى . وقد أشار المؤلف إلى العلة بقوله . ( حتى لا يخفى عليه أمرهم ) فيتحرز منهم [ ص: 339 ] ويتمكن من الفرصة فيهم . ( ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي ) ؛ لأن فعلها سبب الخذلان ، وتركها داع للنصر ، وسبب الظفر ، وكذا يمنعهم من التجارة المانعة لهم من القتال . ( ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل ) لأن ذلك وسيلة إلى بذل جهده ، وزيادة صبره ( ويشاور ذوي الرأي ) لقوله تعالى : وشاورهم في الأمر [ آل عمران : 159 ] وكان - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس مشاورة لأصحابه ، ولأن في ذلك تطييبا لقلوبهم ، ولأن فيها اجتماع الرأي في تحصيل المصلحة ، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه لئلا يعلم به العدو . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد غزوة ، ورى بغيرها ( ويصف جيشه ) لقوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا [ الصف : 4 ] قال : الواقدي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسوي الصفوف يوم بدر ، ولأن فيه ربط الجيش بعضه ببعض ، وسد الثغور فيصيرون كالشيء الواحد ، ويتراصون ، لقوله كأنهم بنيان مرصوص . ( ويجعل في كل جنبة كفئا ) لما روى أبو هريرة قال : كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل خالدا على إحدى الجنبتين ، والزبير على الأخرى ، وأبا عبيدة على الساقة . ولأنه أحوط للحرب ، وأبلغ في إرهاب العدو .

                                                                                                                          ( ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره ) لئلا ينكسر قلب من يميل عنه ، فيخذله عند الحاجة ، ولأنه يفسد القلوب ، ويشتت الكلمة .

                                                                                                                          فرع : إذا وجد رجل آخر أصيب فرسه ، ومعه فضل استحب له حمله ، ولا يجب . نص عليه ، فإن خاف تلفه ، فقال القاضي : يجب كما يلزمه بدل فضل طعامه للمضطر إليه ، وتخليصه من عدو . ذكره في " الشرح " .




                                                                                                                          الخدمات العلمية