الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ظاهر هذه الآية شمولها لجميع المطلقات ، ولكنه بين في آيات أخر خروج بعض المطلقات من هذا العموم ، كالحوامل المنصوص على أن عدتهن وضع الحمل ، في قوله : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] وكالمطلقات قبل الدخول المنصوص على أنهن لا عدة عليهن أصلا ، بقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا [ 33 \ 49 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      أما اللواتي لا يحضن ، لكبر أو صغر فقد بين أن عدتهن ثلاثة أشهر في قوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن [ 65 \ 4 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ثلاثة قروء فيه إجمال ; لأن القرء يطلق لغة على الحيض ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " دعي الصلاة أيام أقرائك " . ويطلق القرء لغة أيضا على الطهر ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]

                                                                                                                                                                                                                                      أفي كل يوم أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 97 ]

                                                                                                                                                                                                                                      مورثة مالا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيها من قروء نسائكا



                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن القرء الذي يضيع على الغازي من نسائه هو الطهر دون الحيض ، وقد اختلف العلماء في المراد بالقروء في هذه الآية الكريمة ، هل هو الأطهار أو الحيضات ؟

                                                                                                                                                                                                                                      وسبب الخلاف اشتراك القرء بين الطهر والحيض كما ذكرنا ، وممن ذهب إلى أن المراد بالقرء في الآية الطهر مالك ، والشافعي ، وأم المؤمنين عائشة ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، والفقهاء السبعة ، وأبان بن عثمان ، والزهري ، وعامة فقهاء المدينة وهو رواية عن أحمد ، وممن قال : بأن القروء الحيضات الخلفاء الراشدون الأربعة ، وابن مسعود ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء ، وابن عباس ، ومعاذ بن جبل ، وجماعة من التابعين وغيرهم ، وهو الرواية الصحيحة عن أحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج كل من الفريقين بكتاب وسنة ، وقد ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب أننا في مثل ذلك نرجح ما يظهر لنا أن دليله أرجح أما الذين قالوا القروء الحيضات ، فاحتجوا بأدلة كثيرة منها قوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن قالوا : فترتيب العدة بالأشهر على عدم الحيض يدل على أن أصل العدة بالحيض ، والأشهر بدل من الحيضات عند عدمها ، واستدلوا أيضا بقوله : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ 2 \ 228 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : هو الولد أو الحيض ، واحتجوا بحديث " دعي الصلاة أيام أقرائك " قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم هو مبين الوحي وقد أطلق القرء على الحيض ، فدل ذلك على أنه المراد في الآية ، واستدلوا بحديث اعتداد الأمة بحيضتين ، وحديث استبرائها بحيضة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الذين قالوا : القروء الأطهار ، فاحتجوا بقوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن [ 65 \ 1 ] قالوا : عدتهن المأمور بطلاقهن لها ، الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية ، ويزيده إيضاحا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه : " فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله " قالوا : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح في هذا الحديث المتفق عليه ، بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ، مبينا أن ذلك هو معنى قوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن وهو نص من كتاب الله وسنة نبيه في محل النزاع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا - فصل في محل النزاع - [ ص: 98 ] لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار ؟ وهذه الآية وهذا الحديث دلا على أنها الأطهار .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يوجد في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يقاوم هذا الدليل ، لا من جهة الصحة ، ولا من جهة الصراحة في محل النزاع ; لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الطهر هو العدة مبينا أن ذلك هو مراد الله جل وعلا ، بقوله : فطلقوهن لعدتهن ، فالإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : " فتلك العدة " راجعة إلى حال الطهر الواقع فيه الطلاق ; لأن معنى قوله " فليطلقها طاهرا " أي : في حال كونها طاهرا ، ثم بين أن ذلك الحال الذي هو الطهر هو العدة مصرحا بأن ذلك هو مراد الله في كتابه العزيز ، وهذا نص صريح في أن العدة بالطهر . وأنث بالإشارة لتأنيث الخبر ، ولا تخلص من هذا الدليل لمن يقول هي الحيضات إلا إذا قال : العدة غير القروء ، والنزاع في خصوص القروء كما قال بهذا بعض العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا القول يرده إجماع أهل العرف الشرعي ، وإجماع أهل اللسان العربي ، على أن عدة من تعتد بالقروء هي نفس القروء لا شيء آخر زائد على ذلك . وقد قال تعالى : وأحصوا العدة [ 65 \ 1 ] وهي زمن التربص إجماعا ، وذلك هو المعبر عنه بثلاثة قروء ، التي هي معمول قوله تعالى : يتربصن [ 2 \ 228 ] في هذه الآية فلا يصح لأحد أن يقول : إن على المطلقة التي تعتد بالأقراء شيئا يسمى العدة زائدا على ثلاثة القروء المذكورة في الآية الكريمة البتة ، كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية