الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 273 ] ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) : قال الزمخشري : يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي ملة الإسلام كقوله : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة ) وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار ، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف ، فاختار بعضهم الحق ، وبعضهم الباطل فاختلفوا ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) : إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال ابن عباس وقتادة : أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر ، لكنه تعالى لم يشأ ذلك . وقال الضحاك : لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة ، والظاهر أن قوله : ( ولا يزالون مختلفين ) هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق ، وأن المعنى : في الحق والباطل ، قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : في الأديان ، وقال الحسن : في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض ، وقال عكرمة : في الأهواء ، وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا ، فيكون الآتي خلفا للماضي . قال : ومنه قولهم : ما اختلف الجديدان ، أي : خلف أحدهما صاحبه . و ( إلا من رحم ) : استثناء متصل من قوله : ( ولا يزالون مختلفين ) ، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن ، فيكون استثناء منقطعا كما ذهب إليه الحوفي ، والإشارة بقوله : ( ولذلك خلقهم ) : إلى المصدر المفهوم من قوله : ( مختلفين ) ، كما قال : إذا نهى السفيه جرى إليه . فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل ، كأنه قيل : وللاختلاف خلقهم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم . ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة ، وخلقا للشقاوة ، ثم يسر كلا لما خلق له ، وهذا نص في الحديث الصحيح .

وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف ، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف . ولا يتعارض هذا مع قوله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) لأن معنى هذا : الأمر بالعبادة . وقال مجاهد وقتادة : ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله : ( إلا من رحم ربك ) ، والضمير في ( خلقهم ) عائد على المرحومين . وقال ابن عباس واختاره الطبري : الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معا ، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله : ( عوان بين ذلك ) ، أي : بين الفارض والبكر ، والضمير في ( خلقهم ) عائد على الصنفين : المستثنى والمستثنى منه ، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء ، أو الرحمة كما قال مجاهد وقتادة ، أو كلاهما كما قال ابن عباس . وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث ، فروي : أنه إشارة إلى ما بعده . وفيه تقديم وتأخير ، أي : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولذلك خلقهم ، أي : لملء جهنم منهم ، وهذا بعيد جدا من تراكيب كلام العرب . وقيل : إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود ، وقيل : إلى قوله : ( فمنهم شقي وسعيد ) وقيل : إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وقيل : إشارة إلى قوله : ( ينهون عن الفساد في الأرض ) وقيل : إشارة إلى العبادة ، وقيل : [ ص: 274 ] إلى الجنة والنار ، وقيل : للسعادة والشقاوة . وقال الزمخشري : ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام ، أولا : من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف ، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . ولولا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحا .

( وتمت كلمة ربك ) ، أي : نفذ قضاؤه وحق أمره . واللام في ( لأملأن ) : هي التي يتلقى بها القسم ، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) ثم قال : ( لتؤمنن به ) : والجنة والجن بمعنى واحد . قال ابن عطية : والهاء فيه للمبالغة ، وإن كان الجن يقع على الواحد ، فالجنة جمعه ، انتهى .

فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء ، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب : كمء للواحد ، وكمأة للجمع .

التالي السابق


الخدمات العلمية