الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة

فمن الحوادث فيها غزوة الوليد بن القعقاع العبسي [أرض الروم] .

وفيها: غزا أسد بن عبد الله فملأ يديه من السبي ، ولقي خاقان ملك الترك فقتله ، وقتل بشرا كثيرا من أصحابه وانصرف بغنائم كثيرة .

وكان الحارث بن شريح قد انضم إلى خاقان ، فتبارزوا ، فانهزم الحارث والترك وخاقان وتركوا قدورهم تغلي ، وتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلون من قدروا عليه ، واستاقوا من أغنامهم أكثر من خمسين ومائة ألف شاة ودواب كثيرة ، ولحقهم أسد عند الظهر ووجل بخاقان برذونه ، فحماه الحارث بن شريح ، وبعث أسد بجواري الترك إلى دهاقين خراسان واستنقذ من كان في أيديهم من المسلمين ، ومضى خاقان إلى الجوزجان فارتحل أسد فنزل بها ، فهرب خاقان ورجع أسد إلى بلخ ، فلقوا خيل الترك التي كانت بمرو الروذ منصرفة لتغير على بلخ ، فقتلوا من قدروا عليه منهم ، ثم رجع خاقان إلى بلاده وأخذ في الاستعداد للحرب ومحاصرة سمرقند ، وحمل الحارث وأصحابه على خمسة آلاف برذون .

وأن خاقان لعب مع بعض الملوك بالنرد ، فتنازعا فضرب ذلك الملك يد خاقان فكسرها ، فحلف خاقان ليكسرن يده ، فبيت خاقان فقتله ، وبعث أسد إلى خالد بن [ ص: 193 ] عبد الله يخبره ، فبعث إلى هشام يبشره بالفتح ، فنزل هشام عن سريره فسجد سجدة الشكر .

وقد روي لنا في حديث طويل من أخبار هشام أنه جاءه الخبر أن خاقان قد خرج فاستباح أرمينية ، فلما سمع ذلك ضرب مضربا وآلى ألا يكنه سقف بيت وأن لا يغتسل من جنابة حتى يفتح الله عليه . فأمر مسلمة فعسكر ، فلما أصبح أذن للناس إذنا عاما فأخبرهم بما ورد من الخبر . وبعث إلى سعيد بن عمرو الحرشي فأنفذه ، فجعل لكل من معه علما في رمحه ، فوصلوا ومع خاقان ثمانية عشر ألف أسير من المسلمين ، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة ، فرأت الأسراء الأعلام ، فعلموا أنها للمسلمين ، فقطعوا أكتاف أنفسهم ، وتناولوا خشبا كان الكفار قد جمعوه ، فثار الكفار إلى خيلهم ، فهذا بسرج ، وهذا يركب . فلحقتهم خيول المسلمين ، وأدرك خاقان فقتل واستبيح عسكرهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وانهزم الباقون ، وقتل ابن خاقان .

وفي هذه السنة [قتل المغيرة بن سعيد ومن معه]

خرج المغيرة بن سعيد وسار بظاهر الكوفة في نفر ، فأخذهم خالد فقتلهم ، وأما المغيرة فذكر أنه كان ساحرا .

قال الأعمش: سمعت المغيرة يقول: لو أراد علي رضي الله عنه أن يحيي عادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا لأحياهم .

قال أبو نعيم: كان المغيرة قد نظر في السحر فأخذه خالد القسري فقتله .

[ ص: 194 ]

قال سعيد بن مرادابند: رأيت خالدا حين أتي بالمغيرة وبيان في ستة نفر أو سبعة ، أمر بسريره فأخرج إلى المسجد الجامع ، وأمر بأطنان قصب ونفط ، فأحضرا ثم أمر المغيرة أن يتناول طنا فتأنى ، فصبت السياط على رأسه ، فتناول طنا فاحتضنه ، فشد عليه ، ثم صب عليه وعلى الطن نفط ثم ألهبت فيهما النار فاحترقا ، ثم أمر الرهط ففعلوا كذلك . ثم أمر بيانا آخرهم فتقدم إلى الطن مبادرا فاحتضنه ، فقال خالد: ويلكم في كل أمركم تحمقون ، هلا رأستم هذا لا المغيرة ، ثم أحرقه .

وفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة ، فقتل ، وكان منزله بدابق ، وكان يتأله ، فخرج يريد الحج ، فأمر غلامه أن يبتاع له بدرهم خلا فجاءه بخمر ، فأمره بردها وأخذ الدرهم ، فلم يجب إلى ذلك ، فجاء بهلول إلى عامل القرية فكلمه ، فقال العامل: الخمر خير منك ومن قومك ، فمضى في حجه ، وعزم على الخروج على السلطان ، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه ، فاتعدوا قرية من قرى الموصل ، فاجتمعوا أربعين ، وأمروا البهلول ، فجعلوا لا يمرون على أحد إلا أخبروه أنهم أقبلوا من عند هشام إلى خالد لينفذهم في أعمالهم ، فأخذوا دواب من دواب البريد ، فلما انتهوا إلى القرية التي كان ابتاع الغلام منها الخل ، فقال بهلول:

نبدأ بهذا العامل الذي قال ما قال ، فقال له أصحابه: نحن نريد قتل خالد ، فإن بدأنا بهذا شهرنا وحذرنا خالد وغيره ، فننشدك الله أن تقتل هذا فيفلت منا خالد ، فقال: لا أدع [ ص: 195 ] ما يلزمني لما بعده ، وأنا أرجو أن أقتل هذا وأدرك خالدا ، وقد قال الله عز وجل: قاتلوا الذين يلونكم من الكفار فأتاه فقتله ، فنذر بهم الناس ، وعلموا أنهم خوارج ، فابتدروا هرابا .

وخرجت البرد إلى خالد ، فأعلموه أن خارجة قد خرجت ، فبعث إليهم جندا فالتقوا على الفرات فهزمهم البهلول ، وارتحل إلى الموصل فخافه عامل الموصل ، فتوجه يريد هشاما ، فخرجت إليه الأجناد فكانوا عشرين ألفا وهو في سبعين ، فقاتلهم فقتل منهم جماعة ، ثم عقد أصحابه دوابهم وترجلوا ، فأوجعوا في الناس ، ثم طعنه رجل فوقع ، فقال أصحابه: ول أمرنا من يقوم به ، قال: إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني فإن هلك فعمرو اليشكري ، ثم مات من ليلته ، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم ، فخرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل ، ثم خرج العميري ، فخرج إليه السمط بن مسلم ، فانهزمت الحرورية ، فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم .

ثم خرج وزير السجستاني ، وكان مخرجه بالحيرة ، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها ولا أحد إلا قتله ، وغلب على بيت المال ، فوجه إليه خالد قائدا من أصحابه فقتل عامة أصحابه وارتث ، فحمل إلى خالد ، فقرأ عليه آيات من القرآن ووعظه ، فأعجب خالد من كلامه فحبسه ، وكان يبعث إليه في الليالي فيؤتى به فيحادثه ، فبلغ ذلك هشاما وقيل: أخذ حروريا واتخذه سميرا ، فغضب هشام وكتب إلى خالد يشتمه ويأمره بقتله وإحراقه . فشده وأصحابه بأطنان القصب ، فصب عليهم النفط وأحرقهم بالنار ، فما منهم إلا من اضطرب إلا هذا الرجل ، فإنه لم يتحرك ، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات .

[ ص: 196 ]

وفي هذه السنة خرج الصحاري بن شبيب على خالد ، ووافقه جماعة ، فبعث إليهم خالد جندا فاقتتلوا فقتلوهم بأجمعهم .

وفي هذه السنة حج بالناس مسلمة بن هشام بن عبد الملك ، وحج [معه] ابن شهاب الزهري ، وكان العامل في هذه السنة على مكة والمدينة والطائف محمد بن هشام ، وعلى العراق والمشرق خالد بن عبد الله ، وعامل خالد على خراسان أخوه أسد .

وقد قيل: إن أسدا هلك في هذه السنة واستخلف جعفر بن حنظلة البهراني ، وقيل: إنما هلك أسد في سنة عشرين ، وكان على أرمينية وأذربيجان مروان بن محمد بن مروان .

التالي السابق


الخدمات العلمية