الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما يقول وما يصنع إذا رأى المطر وما يقول إذا كثر جدا

                                                                                                                                            1357 - ( عن عائشة قالت { : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال : اللهم صيبا نافعا } رواه أحمد والبخاري والنسائي )

                                                                                                                                            1358 - ( وعن أنس قال { : أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر ، قال : فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر ، فقلنا : لم صنعت هذا ؟ قال : لأنه حديث عهد بربه } رواه أحمد ومسلم وأبو داود ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( صيبا ) بالنصب بفعل مقدر : أي اجعله صيبا ونافعا صفة للصيب ليخرج الضار منه ، والصيب : المطر ، قاله ابن عباس وإليه ذهب الجمهور وقال بعضهم : الصيب : السحاب ، ولعله أطلق ذلك مجازا ، وهو من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض والحديث فيه استحباب الدعاء عند نزول المطر ، وقد أخرج مسلم من حديث عائشة قالت : { كان إذا كان يوم ريح عرف ذلك في وجهه فيقول إذا رأى المطر : رحمة } وأخرجه أبو داود والنسائي عنها بلفظ : { كان إذا رأى ناشئا من أفق السماء ترك العمل ، فإن كشف حمد الله فإن مطر قال : اللهم صيبا نافعا } قوله : ( حسر ) أي كشف بعض ثوبه قوله : ( ; لأنه حديث عهد بربه ) قال العلماء : أي بتكوين ربه إياه .

                                                                                                                                            قال النووي : ومعناه أن المطر رحمة ، وهو قريب العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها وفي الحديث دليل أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك .

                                                                                                                                            1359 - ( وعن شريك بن أبي نمر عن أنس { أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال : يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا قال أنس : ولا والله ما [ ص: 18 ] نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار ، قال : فطلعت من وراءه سحابة مثل الترس : فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب . فاستقبله قائما فقال : يا رسول الله هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا ; قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ; قال : فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس ، قال شريك : فسألت أنسا أهو الرجل الأول ؟ قال : لا أدري } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            قوله : ( أن رجلا ) في مسند أحمد ما يدل على أن هذا المبهم كعب بن مرة . وفي البيهقي من طريق مرسلة ما يدل على أنه خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب قال في الفتح : وفيه نظر ; لأنه جاء في واقعة أخرى وقال الحافظ : لم أقف على تسميته كما تقدم قوله : ( يوم جمعة ) فيه دليل على أنه إذا اتفق وقوع الاستسقاء يوم جمعة اندرجت خطبة الاستسقاء وصلاتها في الجمعة .

                                                                                                                                            وقد بوب لذلك البخاري وذكر حديث الباب قوله : ( من باب كان نحو دار القضاء ) فسر بعضهم دار القضاء بأنها دار الإمامة قال في الفتح : وليس كذلك ، وإنما هي دار عمر بن الخطاب وسميت دار القضاء ; لأنها بيعت في قضاء دينه ، فكان يقال لها : دار قضاء دين عمر ، ثم طال ذلك فقيل لها : دار القضاء ، ذكره الزبير بن بكار بسنده إلى ابن عمر وقد قيل في تفسيرها غير ذلك .

                                                                                                                                            قوله : ( ثم قال : يا رسول الله ) هذا يدل على أن السائل كان مسلما ، وبه يرد على من قال : إنه أبو سفيان ; لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن قد أسلم قوله : ( هلكت الأموال ) المراد بالأموال هنا : الماشية لا الصامت . قوله : ( وانقطعت السبل ) المراد بذلك أن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر لكونها لا تجد في طريقها من الكلإ ما يقيم أودها وقيل : المراد نفاد ما عند الناس من الطعام أو قلته فلا يجدون ما يجلبونه ويحملونه إلى الأسواق .

                                                                                                                                            قوله : ( فادع الله يغثنا ) هكذا في رواية البخاري بالجزم ، وفي رواية له " يغيثنا " بالرفع ، وفي رواية له : " أن يغيثنا " فالجزم ظاهر والرفع على الاستئناف : أي فهو يغيثنا قال في الفتح : وجائز أن يكون من الغوث أو من الغيث ، والمعروف في كلام العرب غثنا ; لأنه من الغوث وقال ابن القطاع : غاث الله عباده غيثا وغياثا : سقاهم المطر ، وأغاثهم : أجاب دعاءهم ، ويقال : غاث وأغاث بمعنى قال ابن دريد : الأصل غاثه الله يغوثه غوثا واستعمل أغاثه ، ومن فتح أوله فمن [ ص: 19 ] الغيث ويحتمل أن يكون معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا . قوله : ( فرفع يديه ) فيه استحباب رفع اليد عند دعاء الاستسقاء ، وقد تقدم الكلام عليه . قوله : ( من سحاب ) أي مجتمع .

                                                                                                                                            قوله : ( ولا قزعة ) بفتح القاف والزاي بعدها مهملة : أي سحاب متفرق وقال ابن سيده : القزع : قطع من السحاب رقاق قال أبو عبيدة : وأكثر ما يجيء في الخريف . قوله : ( وما بيننا وبين سلع ) بفتح المهملة وسكون اللام : جبل معروف بالمدينة ، وقد حكي أنه بفتح اللام .

                                                                                                                                            قوله : ( من بيت ولا دار ) أي يحجبنا من رؤيته وأشار بذلك إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا غيره . قوله : ( فطلعت ) أي ظهرت من وراء سلع . قوله : ( مثل الترس ) أي مستديرة ولم يرد أنها مثله في القدر وفي رواية " فنشأت سحابة مثل رجل الطائر " . قوله : ( فلما توسطت السماء انتشرت ) هذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق وانبسطت حينئذ ، وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر قوله : ( ما رأينا الشمس سبتا ) هذا كناية عن استمرار الغيم الماطر وهو كذلك في الغالب وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية ، وقد تحتجب الشمس بغير مطر وأصرح من ذلك ما وقع في رواية أخرى للبخاري بلفظ : " فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى " والمراد بقوله سبتا : أي من السبت إلى السبت .

                                                                                                                                            قاله ابن المنير والطبري قال : وفيه تجوز ; لأن السبت لم يكن مبتدأ ولا الثاني منتهى ، وإنما عبر أنس بذلك ; لأنه كان من الأنصار ، وقد كانوا جاوروا اليهود فأخذوا بكثير من اصطلاحهم ، وإنما سموا الأسبوع سبتا ; لأنه أعظم الأيام عند اليهود كما أن الجمعة عند المسلمين كذلك وفي تعبيره عن الأسبوع بالسبت مجاز مرسل والعلاقة الجزئية والكلية وقال صاحب النهاية : أراد قطعة من الزمان ، وكذا قال النووي ووقع في رواية " ستا " أي ستة أيام ، ووقع في رواية " فمطرنا من جمعة إلى جمعة " قوله : ( ثم دخل رجل من ذلك الباب ) ظاهره أنه غير الأول ; لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد ، وقد قال شريك في آخر هذا الحديث : " سألت أنسا هو الرجل الأول ؟ فقال : لا أدري " .

                                                                                                                                            وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير . وفي رواية البخاري عن أنس " فقام ذلك الرجل أو غيره " وفي رواية له عنه : " فأتى الرجل فقال : يا رسول الله " ومثلها لأبي عوانة ، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا ، فلعل أنسا تذكره بعد أن نسيه ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عنه بلفظ : " فقال الرجل " يعني الذي سأله يستسقي قوله : ( هلكت الأموال وانقطعت السبل ) أي بسبب غير السبب الأول ، والمراد أن كثرة الماء انقطع المرعى بسببها فهلكت المواشي من عدم المرعى أو لعدم ما يمكنها من المطر ويدل على ذلك ما عند النسائي بلفظ " من كثرة الماء " .

                                                                                                                                            وأما انقطاع السبل فلتعذر سلوك الطريق [ ص: 20 ] من كثرة الماء وفي رواية عند ابن خزيمة " واحتبس الركبان " وفي رواية البخاري تهدمت البيوت " وفي رواية له " هدم البناء وغرق المال " . قوله : ( يمسكها ) يجوز ضم الكاف وسكونها ، والضمير يعود إلى الأمطار أو إلى السحاب أو إلى السماء . قوله : ( اللهم حوالينا ولا علينا ) تقدم الكلام عليه . قوله : ( على الإكام ) بكسر الهمزة . وقد تفتح جمع أكمة ، مفتوحة الحروف جميعا : قيل : هي التراب المجتمع وقيل : هي الحجر الواحد ، وبه قال الخليل وقال الخطابي : هي الهضبة الضخمة وقيل : الجبل الصغير وقيل : ما ارتفع من الأرض .

                                                                                                                                            قوله : ( والظراب ) تقدم تفسيره وضبطه . قوله : ( وبطون الأودية ) المراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به . قوله : ( فانقلعت ) أي السماء أو السحابة الماطرة ، والمعنى أنها أمسكت عن المطر على المدينة وفي الحديث فوائد : منها جواز المكالمة من الخطيب حال الخطبة وتكرار الدعاء وإدخال الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر وترك تحويل الرداء والاستقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء كما تقدم .

                                                                                                                                            وفيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله تعالى دعاء نبيه وامتثال السحاب أمره كما وقع في كثير من الروايات وغير ذلك من الفوائد .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية