الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب عيادة المريض

                                                                                                                                            1360 - ( عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : حق المسلم على المسلم خمس : رد السلام ، وعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            1361 - ( وعن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في مخرفة الجنة حتى يرجع } رواه أحمد ومسلم والترمذي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( خمس ) في رواية لمسلم " حق المسلم على المسلم ست " وزاد " وإذا استنصحك فانصح له " وفي رواية للبخاري من حديث البراء " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع " وذكر الخمس المذكورة في حديث الباب وزاد : " ونصر المظلوم ، وإبرار القسم " والمراد بقوله : ( حق المسلم ) أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجبا أو مندوبا ندبا مؤكدا شبيها بالواجب الذي لا ينبغي تركه ، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه ، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب ، كذا ذكره ابن الأعرابي ، وكذا يستعمل في معنى الثابت ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك وقال ابن بطال : المراد بالحق هنا الحرمة والصحبة .

                                                                                                                                            وقال الحافظ : الظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية . قوله : ( رد السلام ) فيه دليل على مشروعية رد السلام ونقل ابن عبد البر الإجماع على أن ابتداء السلام سنة ، وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وهذه الصفة أكمل وأفضل ، فلو حذف الواو جاز ، وكان تاركا للأفضل ، وكذا [ ص: 22 ] لو اقتصر على وعليكم السلام بالواو أو بدونها أجزأه ، فلو اقتصر على عليكم لم يجزه بلا خلاف ولو قال : وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان لأصحاب الشافعي وظاهر قوله : " حق المسلم " أنه لا يرد على الكافر وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم } وفي الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم } وأخرج البخاري نحوه من حديث ابن عمر ، وقد قطع الأكثر بأنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام وفي الصحيحين عن أسامة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين فسلم عليهم } وفي الصحيحين أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى } قوله : ( وعيادة المريض ) وفيه دلالة على شرعية عيادة المريض وهي مشروعة بالإجماع .

                                                                                                                                            وجزم البخاري بوجوبها فقال : باب وجوب عيادة المريض قال ابن بطال : يحتمل أن يكون الوجوب للكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون الوارد فيها محمولا على الندب ، وجزم الداودي بالأول ، وقال الجمهور بالندب ، وقد تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته ، وتسن فيمن يراعى حاله ، وتباح فيما عدا ذلك وفي الكافر خلاف ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب .

                                                                                                                                            قال الحافظ : يعني على الأعيان وعامة في كل مرض قوله : ( واتباع الجنائز ) فيه أن اتباعها مشروع وهو سنة بالإجماع واختلف في وجوبه وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى . قوله : ( وإجابة الدعوة ) فيه مشروعية إجابة الدعوة ، وهي أعم من الوليمة ، وسيأتي الكلام على ذلك في كتاب الوليمة إن شاء الله تعالى قوله : ( وتشميت العاطس ) التشميت بالسين المهملة والمعجمة لغتان مشهورتان قال الأزهري : قال الليث : التشميت : ذكر الله تعالى على كل شيء ومنه قولك للعاطس : يرحمك الله وقال ثعلب : الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة وقال صاحب المحكم : تشميت العاطس معناه الدعاء بالهداية إلى السمت الحسن .

                                                                                                                                            وفيه دليل على مشروعية تشميت العاطس وهو أن يقول له : يرحمك الله . وأخرج أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله على كل حال ، وليقل أخوه أو صاحبه يرحمك الله ، ويقول هو : يهديكم الله ويصلح بالكم } .

                                                                                                                                            وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله ، وليقل أخوه أو صاحبه : يرحمك الله ، فإذا قال : يرحمك الله فليقل له : يهديكم الله ويصلح بالكم } .

                                                                                                                                            وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر قال : { إذا عطس أحدكم فقيل له : يرحمك الله ، يقول يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا وإياكم } والتشميت [ ص: 23 ] سنة على الكفاية ، ولو قال بعض الحاضرين أجزأ عن الباقين ، ولكن الأفضل أن يقول كل واحد لما في البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول : يرحمك الله تعالى } .

                                                                                                                                            وقال أهل الظاهر : إنه يلزم كل واحد ، وبه قال ابن أبي مريم ، واختاره ابن العربي والتشميت إنما يكون مشروعا للعاطس إذا حمد الله كما في حديث أبي هريرة المذكور وفي الصحيحين عن أنس قال : { عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر ، فقال الذي لم يشمته : فلان عطس فشمته ، وعطست فلم تشمتني ، فقال : هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله } .

                                                                                                                                            وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه ، فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه } وإذا تكرر العطاس فهل يشرع تكرير التشميت أو لا ؟ فيه خلاف وقد أخرج ابن السني بإسناد فيه من لم يتحقق حاله عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { إذا عطس أحدكم فليشمته جليسه . وإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ، ولا يشمت بعد ثلاث } وفي مسلم عن سلمة بن الأكوع { أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية إنك مزكوم } .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود والترمذي من حديث سلمة { أنه قال له في الثالثة : يرحمك الله هذا رجل مزكوم } .

                                                                                                                                            وأخرج أبو داود والترمذي أيضا عن عبيد بن رفاعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { تشميت العاطس ثلاثا ، فإن زاد فإن شئت شمته ، وإن شئت فلا } ولكنه حديث ضعيف قال الترمذي : إسناده مجهول قال ابن العربي : ومعنى قوله : " إنك مزكوم " أي إنك لست ممن يشمت بعد هذا ; لأن هذا الذي بك زكام ومرض لا خفة العطاس ، ولكنه يدعى له بدعاء المسلم للمسلم بالعافية والسلامة ، ولا يكون من باب التشميت والسنة للعاطس أن يضع ثوبه أو يده على فيه عند العطاس لما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع ثوبه أو يده على فيه وخفض أو غض بها صوته } وحسنه الترمذي .

                                                                                                                                            ويكره رفع الصوت بالعطاس لما أخرجه ابن السني عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله عز وجل يكره رفع الصوت بالتثاؤب والعطاس } وأخرج أيضا عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { التثاؤب الرفيع والعطسة الشديدة من الشيطان } .

                                                                                                                                            قوله : ( لم يزل في مخرفة الجنة ) بالخاء المعجمة على زنة مرحلة وهي البستان ، ويطلق على الطريق اللاحب : أي الواضح ولفظ الترمذي " لم يزل في خرفة الجنة " والخرف بالضم : المخترف والمجتنى ، أفاده صاحب القاموس [ ص: 24 ]

                                                                                                                                            1362 - ( وعن علي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا عاد المسلم أخاه مشى في خرفة الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس غمرته الرحمة ، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح } رواه أحمد وابن ماجه وللترمذي وأبي داود نحوه ) .

                                                                                                                                            1363 - ( وعن أنس قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث } رواه ابن ماجه ) .

                                                                                                                                            1364 - ( وعن زيد بن أرقم قال { : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني } رواه أحمد وأبو داود ) حديث علي .

                                                                                                                                            قال أبو داود : إنه أسند عن علي من غير وجه صحيح وقال الترمذي : إنه حسن غريب وقال أبو بكر البزار : هذا الحديث رواه أبو معاوية عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ورواه شعبة عن الحكم عن عبد الله عن نافع ، وهذا اللفظ لا يعلم له رواة إلا علي وقد روي عن علي من غير وجه ، وحديث أنس في إسناده مسلم بن علي وهو متروك وحديث زيد بن أرقم سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد وصححه الحاكم .

                                                                                                                                            وفي الباب عن أبي موسى عند البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : عودوا المريض ، وأطعموا الجائع ، وفكوا العاني } وعن جابر عند البخاري وأبي داود قال { : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعودني ليس براكب بغل ولا برذون } وعن أنس غير حديث الباب عند أبي داود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من توضأ فأحسن الوضوء ، وعاد أخاه المسلم محتسبا ، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفا } وفي إسناده الفضل بن دلهم قال يحيى بن معين : ضعيف الحديث وقال أحمد : لا يحفظ وقال مرة : ليس به بأس وقال ابن حبان : ممن يخطئ فلا يفحش خطؤه حتى يبطل الاحتجاج به ، ولا اقتفى أثر العدول ، فنسلك به سنتهم ، فهو غير محتج به إذا انفرد وعن عائشة عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي قال { : لما أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب } وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال { : اشتكيت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني ووضع [ ص: 25 ] يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني ثم قال : اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته } أخرجه البخاري وأبو داود .

                                                                                                                                            وعن البراء أشار إليه الترمذي وعن أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجه بلفظ : { من عاد مريضا نادى مناد من السماء : طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا } قوله : ( في خرفة ) بزنة كناسة : المخترف والمجتنى ، كذا قال في القاموس . قال في الفتح : خرفة بضم المعجمة وسكون الراء بعدها فاء : هي الثمرة وقيل : المراد بها هنا : الطريق والمعنى أن العائد يمشي في طريق يؤديه إلى الجنة ، والتفسير الأول أولى ، فقد أخرجه البخاري في الأدب من هذا الوجه وفيه " قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة ؟ قال : جناها .

                                                                                                                                            " وهو عند مسلم من جملة المرفوع . قوله : ( إلا بعد ثلاث ) يدل على أن زيارة المريض إنما تشرع بعد مضي ثلاثة أيام من ابتداء مرضه فنقيد به مطلقات الأحاديث الواردة في الزيارة ولكنه غير صحيح ولا حسن كما عرفت فلا يصلح لذلك .

                                                                                                                                            قوله : ( من وجع كان بعيني ) فيه أن وجع العين من الأمراض التي تشرع لها الزيارة ، فيرد بالحديث على من لم يقل باستحباب الزيارة من كان مرضه الرمد ونحوه من الأمراض الخفيفة وأحاديث الباب تدل على تأكد مشروعية زيارة المريض وقد تقدم الخلاف في حكمها ويستحب الدعاء للمريض وقد ورد في صفته أحاديث منها حديث عائشة بنت سعد المتقدم ومنها حديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي والترمذي وحسنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من عاد مريضا لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات : أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ، إلا عافاه الله من ذلك المرض } وفي إسناده يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد المعروف بالدالاني وقد وثقه أبو حاتم وتكلم فيه غير واحد ، ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إذا جاء الرجل يعود مريضا فليقل : اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا أو يمشي لك إلى جنازة } .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية